الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

الرد على جمال البنا المرتاب وإسلام بحيري الكذاب

الرد على من نفى صحة عمر عائشة - رضي الله عنها -

عندما بنى بها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -

أو

الرد على "جمال البنا" المحتار و"إسلام بحيري" الختار

 


الحمْد لله الذي له مُلك السَّموات والأرض ولم يتَّخذ ولدًا ولم يَكنْ له شَريك في المُلكَ وخلَق كل شيء فقدَّره تَقديرًا، والصَّلاة والسَّلام على مَن بعَثه الله هاديًا ومُبشِّرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.


المُقدِّمة:

كتَب "جَمال البنَّا" [1] مقالاً صحفيًّا بعُنوان:
(صحفيٌّ شابٌّ يُصحِّح للأئمَّة الأعْلام خطأ ألفِ عام! لم يَتزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - السيِّدة عائشة وهي بِنْت تسْع كما يَزعُمون).

وهو يَعرِض ما قام به الشابُّ الصحفيُّ المِصرِيُّ "إسلام بحيري" مِن نقْدٍ ساذج لِحَديث في صَحيح الإمام البُخاريِّ - رحمه الله - ويَزعُم أنَّ المُحدِّثين والفُقهاء وأهل السِّيرة والتاريخ قد تَداوَلوه مُنذ ذلك العهد دون أن يَنتبِهوا لِما فيه مِن خطأ!

وتتَلخَّص دعوى "إسلام بحيري" - حسب ما ذكَره "جمال البنَّا" - في المَباحِث التالية:
ضَعْف الحَديث الذي فيه ذكْرُ بِناء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعائشة - رضي الله عنها - وعُمرها تسْع سنَوات؛ لأنه مِن رِواية أهْل العراق عن هِشام بن عُرْوة، وهي - في زعْمِه - رِوايَة ضَعيفة، اعتمَد في تَضعيفِها على ما ذكَره ابن خِراش في رِواية هِشام بن عُرْوة بالعِراق، وأيَّد الباحِث دعْواه في إبطال الحَديث بما أجمعَتْ عليه كُتب السِّيرة والتاريخ - حَسب فهمِه السَّقيم - بمُقارَنة عُمرِ أسماء - رضي الله عنها - وتاريخ ولادَتِها، وفرْق السِّنين المذكور بينها وبين أُختِها عائِشة - رضي الله عنهما.

زعَم "إسلام بحيري" أنه نَشِط لهذا العمل؛ انطِلاقًا مِن غِيرته على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذْ كيف يَتزوَّج - صلوات ربي وسَلامُه عليه - وهو في الثَّالِثة والخمْسين مِن طِفلَة صَغيرة في التاسِعة مِن عُمرِها؟

استَشهَد لصَنيعِه بما أَخرَجه البُخاريُّ في الصَّحيح مِن حديث عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "لم أَعقِل أبويَّ إلا وهُما يَدينان الدِّين، ولم يَمرَّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - طرفَي النهار بُكرةً وعشيَّة، ثمَّ بدا لأبي بكر فابتَنى مَسجِدًا بفناء داره، فكان يُصلِّي فيه ويقرأ القُرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يَعجبُون منه ويَنظُرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلاً بكَّاءً لا يَملِك عينَيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشْرافَ قُرَيش مِن المُشركين".

زعَم "جَمال البنَّا" أنَّ عُلماء الأمَّة مِن المُحدِّثين والمُفسِّرين والفقهاء وأهل السِّيَر والتاريخ - لم يَنتبِهوا لهذا الخطأ، حتَّى نهَض هذا الشابُّ الصحفيُّ لتَجلِيَته وبيانه بعد مئات السِّنين، مع إنه لم يكن مِن أصحاب العَمائم، ولا درَس في الأزهر الشَّريف.

ولا شكَّ أنها دعْوى هَزيلة لا تقوم على ساق، وهي بِضاعة لا تَنْفُق إلا في سوق الجهَلة والفُسَّاق، وهي ليستْ بجَديدة؛ فقد ادَّعاها مِن قبْلُ جَماعةٌ مِن أهْل الفِرَق الضالَّة، وتبنَّاها عنهم جمهورُ المُستشرِقين، ثمَّ حمَلها عنهم لفيفٌ مِن المُتعالِمين، ولولا أنها تُشوِّش على المُبتدِئين، وتُشكِّك في وثاقَة نُصوص السنَّة الصَّحيحة، وتَقدَح في مَناهِج عُلماء الأمَّة على اختِلاف تَخصُّصاتهم، وهم الذين دأَبوا على حمْل راية العلْمِ بكلِّ قوَّة، فشادُوه على قواعدَ مَتينةٍ، ورعَوه بمناهِجَ رَصينةٍ، وتَوارَثوا حِراسَةَ هذا الدِّين، جيلاً بعد جيل، فذادوا عنه تَحريف الغالِين، وانتِحال المُبطِلين، وتأويل الجاهِلين، فلولا كلُّ هذا، لما نهضَتْ لي همَّة للردِّ على هذه التُّرَّهات، ولكان شأني معها كمَن قال:
لَوْ كُلُّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا
لَأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بِدِينَارِ

وقد بَنَيتُ عمَلي هذا على التَّقسيم التالي:
المبحث الأوَّل (تَمهيد):
ويَلزم لِتَفنيد هذا القدْح أن نَقِف على مَكانة هِشام بن عُرْوة بين المُحدِّثين، ونَقِف على مَكانة البُخاريِّ في العالَمين، ثمَّ نَقف على مكانة ابن خِراش بين أهْل الجرْح والتَّعديل، ونَكشِف عن مَكرِه وكَيدِه، ثمَّ نَقف أخيرًا على أماكن الحَديث المَقدوح في صحَّتِه في كُتب الحَديث ومَراكِز العلْم، وذلك في ثلاثة مَطالب:
المطلَب الأول: ترجمة هِشام بن عُرْوة.
المطلب الثاني: ترجَمة الإمام البُخاريِّ.
المطلب الثالث: ترجمة ابن خِراش.

المبحث الثاني: (تفنيد القدْح بتَخريج الحَديث بطُرُقه المُتعدِّدة، وألفاظه):
وفيه سبْعة مَطالِب، ستَرِد تِباعًا فيه، ويتبيَّن بها أنَّ الحَديث صحيح، لم يُعرَف في العِراق فقط؛ فقد رَواه أهل المدينة المنورة، ومكَّة المكرمة، وحمَله عُلماءُ مِصر مِن الحِجاز، ولم يُضعِّفْه أحدٌ مِن رُواة الحَديث.


المبحَث الثالث: نقْد منهَج النَّقْد الذي انتهَجه الناقِد:
وفيه خمْسَة مَطالِب تَرِد تباعًا فيه، وبها تُفَنَّد دعوى المتطفِّل المُتمثِّلة في لُجوئه إلى الحِساب، والتاريخ، وتَعارُض الأحاديث.
ثم خاتمة البحث.

وأسأل الله أن يتقبَّل هذا العمل، وأن يَجعَله مِن أدوات الحِراسة، ويُعين به في التيقُّظ والانتِباه لأصحاب الشبهات، ويجعَلنا مِن حمَلة هذه الأدوات؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

المبحث الأول: (تراجِم هِشام بن عُرْوة، والبُخاريِّ، وابن خِراش)

المطلب الأوَّل: تَرجَمة هِشام بن عُرْوة:
هو: هِشام بن عُرْوة بن الزُّبير بن العوَّام القُرَشيُّ الأسَديُّ، أبو المُنذِر، وقيل: أبو عبدالله المدنيُّ، وُلد في نحو سنَة إحْدى وستِّين مِن هجْرة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي السنَة التي قُتل فيها الحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما.

اشتُهر أنه تزوَّج بنت عمِّه فاطمةَ بنت المُنذِر، وهي أكبر منه بثلاثَ عشرةَ سنة، وهو مُعارِض لما ذُكِرَ عنه أنه تزوَّجها وعُمرها تسْع سِنين، ذكَرَ هذا الاختِلافَ الحافِظُ الذهبيُّ في ميزان الاعتِدال، وصحَّح القَول الأوَّل[2].

بلَغ هِشام في تحرِّي الصِّدق الغايةَ القُصوى؛ فقد رُوي أنَّ أمير المؤمنين أبا جعْفر المنصور قال لهِشام بن عُرْوة - حين دخَل عليه -: يا أبا المُنذِر، تذكُر يوم دخلْتُ عليك أنا وإخوَتي الخَلائف، وأنت تَشرَب سويقًا بقصَبة يَراع، فلمَّا خرجْنا مِن عِندكَ قال لنا أبونا: اعْرِفوا لهذا الشَّيخ حقَّه؛ فإنه لا يَزال في قومِكم بقيَّة ما بَقِي؟

قال: لا أَذكُر ذلك يا أمير المؤمِنين!
فلمَّا خرَج هِشام، قيل له: يُذكِّرك أمير المؤمنين ما تَمُتُّ به إليه، فتقول: لا أذكره؟!

فقال: لم أكنْ أَذكُر ذلك، ولم يُعوِّدْني الله في الصِّدق إلا خيرًا.
ويُفهَم مِن سياق النصِّ الذي اعتمد عليه "إسلام بحيري" مِن كلام ابن خِراش أنَّ الإمام مالك لم يرْضَ هِشام بن عُرْوة على الإطْلاق، وهذا كلامٌ غير صَحيح؛ إذْ ذكَر الحافِظ ابن حجَر أنَّ الإمام مالكًا قال في هشام نحو ذلك وأكثَر منه، ولكنْ بتتبُّع الرِّوايات، نَجِد رواية الإمام مالك عن هِشام في "موطَّأ الإمام مالك" وحدَه، قد وردَتْ في أكثر مِن مائة وعشرين مَوضِعًا، وجاءتْ أحاديث مالك عن هِشام في الصَّحيحَين، وفي "سُنن أبي داود"، وفي "جامع الترمذيِّ"، وفي "سُنن النسائي"، وله في ابن ماجَه أحاديثُ مِن غير طَريق الإمام مالِك[3]، بل إنَّ أحاديثه التي رَواها عنه غير الإمام مالِك مِن الأئمَّة والحفَّاظ قد وردَتْ في كلِّ دَواوين السنَّة المُعتبَرة، وهذا يدلُّ على أنَّ مَقصِد الإمام مالك مِن الإنكار هو كَراهيتُه للتوسُّع في الرواية، وهو منهَج عُرف به الإمام مالك نفْسُه - رَحمه الله - إذْ دأب على تَقليصِ "الموطَّأ" شيئًا فشيئًا، حتَّى وصلَنا في النهاية على النحو الذي قد لا يُمثِّل مِن أصلِه إلا القَليل، ولهِشام في هذا القليل نصيبٌ وافِر، حتَّى إنه يأتي في المرتَبة الثالِثة بعد الإمامَين الزُّهريِّ، ونافع.

ذكَر الحافِظ الذهبيُّ هِشامًا في ميزان الاعتِدال، وذبَّ عنه، وذكََر أنَّ حديثه مَرويٌّ في الكُتب الستَّة، وقال: هِشام بن عُرْوة، أحد الأعلام، حُجَّة إمام، لكنْ في الكِبَر تَناقَص حفْظُه، ولم يَختلِط أبدًا، ولا عبرةَ بما قاله أبو الحسَن بن القطَّان؛ مِن أنه وسُهيل بن أبي صالح اختلَطا وتغيَّرا، نعم؛ الرجل تغيَّر قليلاً، ولم يَبقَ حفْظُه كَهُوَ في حال الشَّبيبة، فنَسِيَ بعض مَحفوظِه، أو وَهِم، فكان ماذا؟! أهو مَعصوم مِن النِّسيان؟! ولما قَدِم العِراق في آخِر عُمرِه حدَّث بجُملة كثيرة مِن العلْم، في غُضون ذلك يسير أحاديث لم يُجوِّدْها، ومثْل هذا يَقع لمالِك، ولشُعبة، ولِوَكيع، ولِكِبار الثِّقات، فدعْ عنكَ الخبْط، وذَرْ خلْط الأئمَّة الأثبات بالضُّعفاء والمُخلِّطين، فهِشام شيخُ الإسلام، ولكنْ أحسَن الله عزاءنا فيكَ يا بْن القطَّان! وكذا قول عبدالرحمن بن خِراش: كان مالِك لا يَرضاه؛ نَقِمَ عليه حديثه لأهْل العِراق، قَدِمَ الكُوفة ثلاث مرَّات: قدمة: كان يقول: حدَّثني أبي، قال: سمعتُ عائشة، والثانية: فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقَدِم الثالثة فكان يقول: أبي، عن عائشة، يَعني: يُرسل عن أبيه! توفِّي سنة ستٍّ، وقيل: سبع وأربعين، عن نحو سبْع وثمانينَ سنة[4].

المطلب الثاني: تَرجمَة الإمام البُخاريِّ:
هو محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة أبو عبدالله الجُعْفي حِلْفًا، البُخاريُّ موطِنًا، ولد يوم الجُمعة عَقِب صلاة الجُمعة في الرابع عشَر مِن شوَّال، عام أربعة وتِسعين ومائة مِن الهجْرة، وتُوفِّي بعْد مَغيب آخِر يوم مِن رمضان، سنة ستٍّ وخَمسين ومائتَين، وَوُورِيَ الثَّرى في يوم الفطْر - رضي الله عنه وأرضاه.

وممَّا يُفرَح به أن تَجِد عِبارةً في مدْحِه نُسبتْ إلى الحافظ يَحيى بن مُحمَّد بن صاعد[5]؛ فقد كان إذا ذكَر البُخاريَّ، قال: (الكبْش النطَّاح)[6]، وقد تُستغرَب هذه العِبارة؛ لأمرَين: الأوَّل أنَّ الإمام البُخاريَّ كان مُرهَف الذَّوق جدًّا، ويَعرِف ذلك مَن يتابع عبارته في نقد الرجال، فيرى كلمة مُعبِّرةً دقيقةً لا تَطاوُل فيها، ولا تَجبُّر، يَذوق فيها حَلاوة الخشْيَة مِن الله، ويَلمس فيها دقيق الورع، وهي مع ذلك بالِغة في التعبير عن الجرْح أو الحطِّ مِن العَدالة، وما قال الحافظ ابن صاعد هذه العبارةَ إلا لأنه أدرك أنَّ البُخاريَّ "كبش نطاح" بحقٍّ، وقوَّة نطْحه في الصُّعوبة التي يجدها مَن يَتعرَّض لنقْدِه، أو تَمحيصِه.

وإنْ يَعجب الناظِر في كل ذلك، فلنْ يَنقضِيَ عجبه مِن حدَّة الذكاء وجَودة الذهْن من إمام لم تَشغلْهُ زوجة ولا ولد عن خِدمة حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كان آيةً في الحفْظ، حتَّى إنهم اختَبروه اختبارًا في مكْر شديد، فأظهَر براعةً لا يَكاد يُشارِكه فيها بَشر؛ ذلك أنه قَدِم بغداد، فسَمِع به أصحاب الحديث، فاجتمَعوا، وعَمَدوا إلى مائة حديث، فقَلَبوا مُتونها وأسانيدها، وجعَلوا متْن هذا الإسناد لإسناد آخَر، وإسناد هذا المتن لمتْن آخَر، ودفَعوا إلى عَشرة أنْفُس؛ إلى كلِّ رجل عَشرة أحاديث، وأَمُروهم إذا حضَروا المجلس يُلقون ذلك على البُخاريِّ، وأخَذوا المَوعِد للمَجلِس، فحضَر المَجلِس جَماعة أصحاب الحَديث؛ مِن الغُرباء مِن أهل خُراسان، وغَيرها، ومِن البَغداديِّين، فلمَّا اطمأنَّ المَجلِس بأهلِه، انتدب إليه رجل مِن العَشرة، فسأله عن حديثٍ مِن تلك الأحاديث، فقال البُخاري: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أعرفه، فما زال يُلقي عليه واحدًا بعد واحد، حتَّى فرَغ مِن عَشَرته، والبُخاريُّ يقول: لا أَعرِفه! فكان الفُقهاء ممَّن حضَر المَجلِس يَلتفِتُ بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فَهِم، ومَن كان منهم غير ذلك يَقضي على البُخاريِّ بالعجْز والتقصير وقلَّة الفهْم، ثم انتدب رجل آخَر مِن العَشرة، فسأله عن حَديثٍ مِن تلك الأحاديث المَقلوبة، فقال البُخاريُّ: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أَعرِفه، فلمْ يَزلْ يُلقي عليه واحدًا بعْد آخَر، حتَّى فرَغ مِن عشرته، والبُخاريُّ يقول: لا أَعرِفه، ثمَّ انتدب له الثالث، والرَّابع، إلى تَمام العَشرة، حتَّى فرَغوا كلهم مِن الأحاديث المقلوبة، والبُخاريُّ لا يَزيدُهم على: لا أَعرِفه، فلمَّا عَلِم البُخاريُّ أنهم قد فرَغوا، الْتفَت إلى الأول منهم، فقال: أما حَديثُك الأوَّل، فهو كذا، وحديثُك الثاني، فهو كذا، والثالث، والرابع، على الوَلاء؛ حتَّى أتى على تمام العَشرة، فردَّ كل متْن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متْنِه، وفعَل بالآخَرين مثْل ذلك، وردَّ مُتون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى مُتونها، فأقرَّ له الناس بالحفْظ، وأذعَنُوا له بالفضْل.

وممَّا يُدهَش له كذلك جَودة التَّرتيب والتبويب، التي كشَف عنها الحافظ ابن حجر في مُقدِّمة "فتْح الباري" المسماة: "هدْي السَّاري"[7]، وقد كتَب في توضيحها في ثَنايا "الفتح" كله، ولا بدَّ للذي يتقدَّم لنقْد حَديث فيه أن يَعرِف مَنهجَه، ويَعرِف قَواعِد التَّحديث، وعُلوم الحَديث، فإنْ حاز كل ذلك ووصل لأنْ يَكون في قامَة الحافِظ أبي الحسَن الدارقُطنيِّ[8]، أو في قامة الحافِظ أبي الفضْل بن حجَر العسقلاني[9]، جاز له أن يَعرِف متى تَكون العلَّة قادِحةً، ومتى تَكون غير قادِحة!


المطلب الثالث: ترجمة ابن خِراش الذي غمَز هِشام بن عُرْوة:
لقد استَشهَد المدَّعي لإقامة دعْواه الهَزيلة في تَضعيف الحَديث بما أشار إليه الحافِظ ابن حجَر العسْقلاني في مُقدِّمة "الفتح"[10]، وما نقَله في تهذيب التَّهذيب في ترجَمة هِشام[11] عن ابن خِراش، أنه قال في هِشام بن عُرْوة: كان مالِك لا يَرضاه، وكان هِشام صدوقًا تَدخُل أخباره في الصَّحيح، بلَغني أنَّ مالِكًا نَقِمَ عليه حَديثه لأهْل العِراق، قَدِم الكوفة ثلاث مرَّات: قدمة: كان يَقول: حدَّثني أبي، قال: سمعتُ عائشة، وقَدِم الثانية: فكان يقول: أخبَرني أبي، عن عائشة، وقَدِم الثالِثة: فكان يَقول: أبي، عن عائشة...اهـ.

ومذهب ابن خِراش في دعْواه هذه يَنطوي على مكْرٍ عَظيم، وكَيدٍ لئيم، لا يَعرِفه إلا مَن سبَر منهَج الذين يَدسُّون السمَّ في الفالوذج، فتأمَّل قوله: (كان مالِك لا يَرضاه، وكان هِشام صَدوقًا تَدخُل أخباره في الصَّحيح)، فقد جمَع بين الحَلاوة والطعْن القاتل، ومثْل هذا المكْر قد فعَله رجال يَنتمون إلى الإسلام، فاستغلَّ هذا الكَيد المُستشرِقون فيما بعْد، فهِشام بن عُرْوة يُمثِّل أحَد الطُّرُق الهامَّة لعائشة - رضي الله عنها - وبالتالي فهو أحَد الطُّرق الهامَّةإلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا صحَّ الطعْن فيه، سَهُل الطَّعْن في أخبار الصِّديقة - رضي الله عنها - وهو أيضًا أحد أهمِّ الطُّرق إلى آل الصِّديق - رضي الله عنهم - فالقدْحُ فيه بهذه الطَّريقة الماكِرة، ومُحاوَلة إِحراق روايتِه بنار هادِئة - مَطلبٌ تتحقَّق مِن ورائه مَقاصِد الذين في قُلوبهم إِحَنٌ على الصِّدِّيقة، وعلى أبيها وآلِه - رضي الله عنهم - فالواقِفُ على تَرجمة ابن خِراش يَشَمُّ - ولو كان مَزكومًا - رائِحة الحقْد على الشَّيخَين أبي بكْر الصِّدِّيق وعُمر الفاروق - رضي الله عنهما - فابن خِراش هو: عبدالرحمَن بن يُوسُف بن خِراش، وقد ترجَمه الحافِظ الذهبيُّ في "ميزان الاعتدال"، فقال: عبدالرحمَن بن يوسُف بن خِراش الحافِظ، قال عَبدان: كان يوصل المَراسيل[12]، وقال ابن عديٍّ: كان يَتشيَّع، وقال أبو زُرعة: محمَّد بن يوسُف الحافِظ كان خرَّج مثالب الشَّيخَين، وكان رافضيًّا[13]، وقال عَبدان: قلتُ لابن خِراش: حديث: ((لا نُورَث؛ ما تركْنا صَدقةٌ؟)) قال: باطل[14]، قلتُ: مَن تتَّهِم به؟ قال: مالِك بن أوس.

قلتُ[15]: لعلَّ هذا بدا منه وهو شابٌّ؛ فإني رَأيتُه ذكَر مالك بن أوس بن الحدَثان في تاريخِه، فقال: ثِقَة!

قال عَبدان: وحمل ابن خِراش إلى بُندار[16] عِندنا جُزأَين صنَّفهما في مَثالِب الشيخَين، فأجازه بألفَي درْهم.

قلت[17]: هذا والله هو الشَّيخ المُعَثَّر، الذي ضلَّ سعْيُه، فإنه كان حافِظ زمانه، وله الرِّحلة الواسِعة، والاطِّلاع الكَثير، والإحاطة، وبعد هذا فما انتَفع بعلْمِه، فلا عتب على حَمير الرافضة وحواتر جزين ومَشْغَرا[18].

وقد سَمِع ابن خِراش مِن الفلاس وأقرانه بالعِراق، ومِن عبدالله بن عمران العابدي وطبَقته بالمدينة، ومن الذهلي وبابته بخراسان، ومِن أبي التقى اليزني بالشام، ومِن يُونُس بن عبدالأعلى وأقرانه بمصْر، وعنه ابن عقدة، وأبو سهْل القطَّان، وقال أبو بكر بن حمدان المَروزيُّ: سَمعتُ ابن خِراش يقول: شربْتُ بَولي في هذا الشأن خمْس مرَّات، وقال ابن عدي: سمعتُ أبا نُعيم عبدالملك بن محمَّد يقول: ما رأيت أحفََظ مِن ابن خِراش؛ لا يُذكَر له شيء مِن الشُّيوخ والأبواب إلا مرَّ فيه، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين، انتهى[19].

وقال الحافظ ابن حجَر في "لسان الميزان"[20]: وقال ابن عديٍّ: إنما ذُكر بشيء مِن التشيُّع، فأمَّا في الحَديث، فإني أرجو أنه لا يَتعمَّد الكَذِب.

وبقيَّة قصَّة جُزئَي المَثالب: فأجازه بألفَي درْهم، فبنا بها حجرة ببغداد لِيُحدِّث فيها، فما مُتِّع بذلك ومات حين فرغَتْ.

وقال الخَطيب:
كان أحد الرحَّالين في الحديث إلى الأمْصار، وممَّن يُوصَف بالحفْظ والمَعرِفة، وقال ابن المُنادي: كان مِن المَعدودين المذْكورين بالحفْظ والفهْم للحَديث والرِّجال، توفِّي لخمْس خلَونَ مِن شهْر رمضان؛ اهـ.

ولا شكَّ أنَّ رائحة المذْهبيَّة البَغيضة، قد فاحتْ مِن كَلام ابن خِراش، وهو الذي لم يَنفعْه التكسُّب الرَّخيص؛ بل مات بعْد أن اكتمَل البِناء الذي بَناه مِن جائزته على مَثالِب أبي بكر وعُمر - رضي الله عنهما - ولم يَهنأْ بما بَناه، ونسأل الله أنْ يَجزِيَه في آخِرته وفاقًا لِما فعَل.

وقد دأَب الشِّيعة - والرَّافِضة منهم على وجْه الخُصوص - على الطَّعْن في مناهِج أهْل السنَّة، ومِن أهمِّ الجِبال الثابتة التي دأَبوا على ضربِها بفؤوس مِن وَرَق صحيحُ البُخاريِّ - رضي الله عنه - ولكنْ يأبى الله إلا أنْ يَظلَّ هذا الصَّحيح صامِدًا لا يتأثَّر بضرَباتِ أقْوى المَعاوِل، وتظلُّ مَناهِج المُحدِّثين هي الحارِسَ الأمين لهذا الدِّين مِن التَّحريف، وإنَّ أجلَب عليها الحاقِدون مِن الشِّيعة والمُستَشرِقين وأذْنابِهم بخَيلِهم ورجِلِهم.

المبحث الثاني: تخريج الحديث بطُرُقِه المُتعدِّدة، وألفاظِه:
المطلب الأول: تَخريج الحَديث مِن روايَة البُخاريِّ:
هذا الحَديث أخرَجه أمير المؤمِنين في الحَديث: الإمام البُخاريُّ مِن طُرُق عدَّة، منها الوجْه الذي ذكَره المُتهوِّر "إسلام بحيري"، وهو طريق علي بن مُسْهِر[21]، عن هِشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تزوَّجَني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنْتُ ستِّ سنين، فقَدِمْنا المدينة فنزلْنا في بني الحارِث بن خزْرَج، فَوُعِكْتُ فتَمرَّق شَعري، فَوفَى جُمَيْمَةً، فأتتْني أمِّي أمُّ رومان وإنِّي لَفِي أُرجُوحة، ومعي صَواحِب لي، فصرَخَتْ بي، فأتَيتُها لا أدري ما تُريد بي، فأخذَتْ بيَدِي، حتَّى أوقفَتْني على باب الدار، وإني لأُنْهَج حتَّى سكَن بعْض نفَسي، ثمَّ أخذتُ شيئًا مِن ماءٍ فمسَحتْ به وجْهي ورأسي، ثم أدخلَتْني الدَّار، فإذا نِسوَة مِن الأنصار في البيت، فقُلْنَ: على الخَير والبرَكة، وعلى خير طائر، فأسلمَتْني إلَيهِنَّ، فأصلَحْنَ مِن شأني، فلم يَرُعْنِي إلا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضُحى، فأسلمَتْني إليه وأنا يومئذٍ بنتُ تسْع سِنين".

والثاني: مِن طَريق أبي أسامة حمَّاد بن أسامة[22]، عن هشام، عن أبيه، قال: تُوفِّيَتْ خديجة قبْل مَخرَج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة بثلاث سنين، فلَبِثَ سنتَين أو قريبًا مِن ذلك، ونكَح عائِشة وهي بنتُ ستِّ سِنين، ثمَّ بنَى بها وهي بنتُ تسْع سِنين.

والثالث: مِن طَريق وُهَيب بن خالد[23]، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّجَها وهي بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنتُ تسْعِ سِنين، قال هِشام: وأُنبئتُ أنها كانتْ عِندَه تِسعَ سِنين.

والرَّابِع: مِن طَريق سُفيانَ الثَّوريِّ، عن هِشام بن عُرْوة، عن عُروة، تزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وهي بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنت تِسعٍ، ومكثَتْ عِنده تِسعًا، وقد روى البخاري هذا الحَديث عن شَيخَين، أحدهما محمَّد بن يوسُف الفِرْيابيُّ[24]، والآخَر قَبيصَة بن عُقبة[25].

ووافَق مُسلمٌ البُخاريَّ فأخرَجه مِن طريق أبي أسامة[26]، عن هِشام، عن أبيه عُروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لستِّ سِنينَ، وبنَى بي وأنا بنتُ تسْعِ سِنين، قالتْ: فقَدِمْنا المَدينة فوُعكْتُ شَهرًا، فوفَى شَعري جُمَيمة، فأتتْني أمُّ رومان وأنا على أُرجوحَة، ومَعي صَواحِبي، فصرَختْ بي، فأتَيتُها وما أدْري ما تُريد بي، فأخذَتْ بيَدِي، فأوقَفتْني على الباب، فقلتُ: هَهْ هَهْ، حتَّى ذهَب نفَسي، فأدخلَتْني بيتًا فإذا نِسوة مِن الأنصار، فقُلْنَ: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمَتْني إليهنَّ، فغسَلْنَ رأسي وأصلَحْنَني، فلمْ يَرُعْنِي إلا ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضُحًى، فأسلَمْنَني إليه".

ومِن طَريق أبي أسامة المُتقدِّم أخرَجه ابن حبَّان في الصَّحيح، وأبو نُعيم في المُستخرَج على صَحيح مُسلم[27].

ثمَّ أخرَجه مُسلِم في الباب نفْسِه مِن طَريق أبي مُعاويَة[28]، ومِن طريق عَبْدَة بن سُلَيمان[29]؛ كلاهما عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالتْ: "تزوَّجَني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بي وأنا بنتُ تِسعِ سِنين".

وكلُّ الأوجُه المُتقدِّمة مِن رِوايَة أهْل العِراق لهذا الحَديث، عن هِشام بن عُرْوة، وقد استَفاض الحَديث بالعِراق.

المَطلب الثَّاني: استِفاضَة الحَديث بالعِراق:
وقد استَفاض الحَديث بالعِراق؛ فرَواه عن هِشام أئمَّة مِن جَهابِذة صَيارِفة الحَديث ونُقَّاده العارِفين:
ومِن هؤلاء حمَّاد بن زيد؛ وروايتُه أخرَجها ابن سعْدٍ، وأبو داود، وأبو عوانة الإسفرائينيُّ، وأبو نُعيم الأصبَهاني[30]؛ بذاتِ السنَد، بنحْوِه.

ومنهم حمَّاد بن سلَمة، وروايته أخرَجَها أبو داود الطَّيالِسيُّ في المُسنَد، والإمام أحمد في المُسنَد، وابن سعْد، وأبو داود السِّجِسْتانيُّ في السُّنَن، وابن عَبدالبرِّ في التَّمهيد[31]، جميعُهم بذاتِ السنَد، بنحْوِه.

ومنهم جَرير بن عَبدالحَميد، وروايتُه أخرَجها ابن أبي داود في مُسنَد عائِشة، وابن عبدالبرِّ في التَّمهيد في المَوضِع السابِق[32]، بذات السنَد، بنحْوِه.

ومنهم وكيع بن الجرَّاح، وروايتُه أخرَجها ابن سعْدٍ، وإسحاق بن راهوَيْهِ، وهَنَّاد في الزُّهْد[33]؛ بذاتِ السَّنَد.

ومنهم يَحيى بن زكريَّا بن أبي زائِدة، وروايتُه أخرَجها أبو عوانة الإسفرائينيُّ[34]بذات السنَد، بنحْو رِوايَة عليِّ بن مُسْهِر عِند البُخاريِّ، وهي ستُّ سنين عِند عُقدَة النِّكاح.

ومنهم جَعْفَر بن سُليمان الضُّبَعيُّ، وروايتُه أخرَجها ابن سعْد[35]، وأبو عوانة الإسفرائينيُّ[36]بذات السنَد، بنحْوِه.
ومنهم يونُس بن بُكَير، ورِوايته أخرَجها البَيهقيُّ[37]، بذات السنَد، بنحْوِه.
ومنهم إسماعيل بن زكريَّا، ورِوايَتُه أخرَجها سَعيد بن منصور[38]، بذات السنَد، بنحْوِه.
وبحُكْم استِفاضَة هذا الحَديثِ؛ فقد طَمِعَ فيه الضُّعَفاء والسَّارِقون، ومنهم يَحيى بن هِشام، وهو مِن المَعروفين بسَرِقَة الحَديث، ورِوايَته أخرَجها الحافظ أبو نُعَيم الأصْبَهانيُّ[39] بذات السنَد، بنحْوِه.

فأهْل الحَديث لَيسُوا بأولئك الأغرار، وإنما هُمْ حُرَّاس دينٍ، يَنفُون عنه عبَث الجاهِلين، وكَذِبَ الدجَّالِين، فيَحيى بن هِشام لو انفرَد بحَديث، ولم يُتابِعْه عليه أحَد، فالنَّار أولى بقِرْطاسِه مِن النَّشْر، ولكنَّه أيقَن أنَّ هذا الحديث قد فاضتْ به الدَّواوين، وكُسرتْ عليه العَراجين، فلمْ يَملِك إلا أنْ كتبَه مع الحفَظة والورَّاقين، وهو الذي ذكَره ابن أبي حاتم في الجرْح والتَّعديل[40]، فقال: يَحيى بن هَاشِم السِّمْسار الغسَّاني؛ سكَن بغْداد، وهو ابن هاشِم بن كَثير، روى عن الأعمَش، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن أبي لَيلَى، ويونُس بن أبي إسحاق، وهِشام بن عُرْوة.

روى عنه يَزيد بن هارون، وسَمِع منه أبي ولم يُحدِّثْني عنه، وقال: كان يَكذِب، وكان لا يُصدِّق، تُرك حديثُه.اهـ.

ويَحيى وبابَتُه لو عوَّل على روايتِه حاقِد، لانكشَف أمْرُه، وأنَّى لذلك الجَهول أن يَعلم هذه القوة والشدَّة في تَعاهُد سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

المطلب الثالث: رواية غير العِراقيِّين لهذا الحَديث عن هِشام:
إنَّ القَول بأنَّ الحَديث لم يَرِدْ في صَحيح البخاري عن هِشام بن عُرْوة إلا مِن رواية العِراقيِّين، قولُ حقٍّ أريد به باطِل، وهو تَضعيف الحَديث وإسقاطه، وبالتالي إسْقاط الصَّحيح، بل إسقاط مَناهِج المُحدِّثين بأكمَلِها؛ فالحَديث انتَقاه الإمام البُخاريُّ بالفعْل مِن رِوايَة العِراقيِّين.

ولكنْ هذه دعْوى ماحِقة؛ فالحَديث رواه الإمام الشافعيُّ في مُسنَده[41]، عن سُفيان بن عُيَينة، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: "تزوَّجني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنتُ سبْع سِنين، وبنَى بي وأنا بنتُ تسْع سِنين"، وهو كذلك في كتاب "اختِلاف الحَديث" للإمام الشافعي[42] بنفْس السنَد واللفْظ.

وأخرَجه الحُمَيدي في مسنده[43]، والآجُرِّيُّ في الشَّريعة[44] مِن طَريق محمَّد بن يَحيى بن أبي عُمر، كِلاهما (الحُمَيدي، وابن أبي عُمر)؛ عن سُفيان بن عُيَينة، عن هِشام، به.

ونقل الحُمَيدي عن سُفيان أنه قال بعد قوله: عن هِشام: "وكان مِن جيِّد ما يَرويه".

ومِن طَريق الحُمَيدي أخرجه الطبَرانيُّ في المُعجَم الكَبير[45].
وعلى هذا؛ فالحَديث قد خرَج مِن المَدينَة المُنوَّرة إلى مكَّة المُكرَّمة، وقد رواه سُفيان بن عُيَينَة، وهو مِن جلَّة أهْل الحِجاز مِن مكَّة المُكرَّمة، وهو مِن أقْران الإمام مالك، وقد ساواه الإمام الشافعيُّ بالإمام مالك، فقال: "لولا مالك وسُفيان، لضاعَ عِلْم الحِجاز"؛ اهـ، وقد رواه عنه الإمام الشافعيُّ، وأبو بكْر الحُمَيديُّ المكِّيُّ، وابن أبي عُمر العدَني نَزيل مكَّة، وهمْ مَن هُم في أئمَّة أهْل الحِجاز، ولا بدَّ مِن وقْفة عِند قول سُفيان بن عُيَينة: "وكان مِن جيِّد ما يَرويه".

أما زعْمُه بأنَّ الحَديث لم يَروِه أحدٌ مِن المدَنِيِّين عن هِشام، فهو قَولٌ كَذِبٌ محْضٌ، فقد رواه مِن المَدنيِّين عبدُالرحمَن بن أبي الزِّناد، وهو مِن أثبَتِ الناس في هِشام بن عُرْوة فيما قال أبو داود عن يَحيى بن مَعين[46]، وروايتُه أخرَجها الإمام أحمد[47]، عن سُلَيمان بن داود[48]، وأخرَجها الطبَرانيُّ في المُعجم الكَبير[49]، من طريق سَعيد بن أبي مرْيَم، وأخرَجها الطبرانيُّ في المُعجَم الأَوسَط[50]، مِن طَريق بكْر بن يونُس، وأخرجَها الخَطيب البَغداديُّ في الكِفاية في علْم الرِّواية[51]، مِن طَريق عبدالله بن وهْب، جَميعهم عن عبدالرَّحمن بن أبي الزِّناد، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ابنة ستِّ سنين بمكَّة مُتوفَّى خَديجة، ودخَل بي وأنا ابنة تِسْع سِنين بالمَدينة"؛ واللفْظ للإمام أحمَد.

وكذلك حمَلَه عن هِشام مِن المدنيِّين سَعيد بن عبدالرحمَن بن عبدالله القُرَشي الجُمَحيُّ، ورِوايته أخرَجها الخَطيب البَغداديُّ في المَوضِع السابق مَقرونةً مع رِوايَة ابن أبي الزناد، مِن رواية ابن وهْب عنه.

وبهذا؛ فقد وضَحَ أنَّ العِراقيِّين لم يَتفرَّدوا برِواية هذا الحديث عن هِشام؛ بل هو في المدينة مِن رواية ابن أبي الزناد، وسَعيد بن عبدالرحمن الجُمَحيِّ، وهو في مكَّة المَحروسة مِن رِوايَة سُفيان بن عُيَينة، وقد نص فيما نقَله عنه أبو بكر الحُمَيدي المكيُّ على أنَّ هذا الحديث من جيِّد ما يَرويه هِشام بن عُرْوة.

وقد رواه عبدالله بن وهْبٍ المصري - فيما تقدم نقْلُه عن الخَطيب في الكِفاية - عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد، وعن سعيد بن عبدالرحمن المدنيين، ورواه عن ابن أبي الزناد - أيضًا فيما تقدَّم تخريجه - سعيد بن أبي مريم، وهو سعيد بن الحَكَم المِصريُّ.

وابن وهْب، وابن أبي مريم: مِن أئمَّة المِصريِّين وثِقاتهم الأثْبات، ويَكون الحديث بذلك قد انتَقل إلى مصْر عن طَريق جهْبذَينِ مِن جَهابِذَتِها، ومع ذلك فلم يَعلَمِ المِصريَّان "جمال البنَّا" و"إسلام بحيري" أنَّ هذا الحديثَ انتقل إلى مِصرَ، ونقلَه اثْنان مِن كِبار عُلماء الأمَّة في مصْر!

وليس مِن نافِلة القَول أنْ أُذكِّر بأنَّني قد حاولْتُ أنْ أستفيد مِن الوجْه الرابع في رِوَاية البُخاريِّ لهذا الحديث، والتي ساقها مِن وجهَين عن سُفيان الثوريِّ، أحدهما مِن روايته عن قَبيصَة بن عُقبَة، والآخَر مِن روايته عن محمَّد بن يوسُف الفِرْيابيِّ، مؤمِّلاً في تَعضيد ذلك بالنظَر إلى ظاهِر أماكن نَشأة واستِقرار هؤلاء الأئمَّة، وقد وجدْتُ قَبيصَة بن عُقبَة مِن أهْل الكُوفَة[52]، فلم أُعوِّل على رِوايته في خُروج الحديث عن غير العِراقيِّين، إلا أنَّ محمَّد بن يوسُف الفِرْيابي وجدْتُه مِن قيساريَّة مِن ساحل الشام[53]، فلو جاز الاحتِجاج للرَّأي بالمُماراة، لقلتُ: إنَّ الفِرْيابيَّ ليس مِن أهْل الكُوفة، وإنَّ سُفيان الثوريَّ كانتْ له إقامة معلومة بمكَّة، وهذا يَعضُد القول بأن هذا الحديث مكِّيٌّ أيضًا، بَيْدَ أنَّني وجدْتُ أهل الحديث لم يَترُكوا الأمر على عواهِنه، فإنهم لم يَترُكوا مَجالاً للمُماراة في ذلك، فقد نقَل الحافظ المِزِّيُّ عن حرْب بن إسماعيل، أنه قال: قال أحمد بن حَنبلَ: الفِرْيابيُّ سَمِع مِن سُفيان بالكوفة، وصَحِبه وسَمِع منه، قال أحمد: وكتبتُ أنا عن الفِرْيابيِّ بمكَّة[54].اهـ. وهذا دليل على أنَّ أهل الحديث كانوا في مُنتهى الدقَّة، فهل لجَمال البنَّا ومِن ورائه "إسلام بحيري" أن يَعرِفا هذه اللطائف الإسناديَّة الدقيقة العزيزة؟!

المطلب الرابع: مُتابَعة الرُّواة لهِشام بن عُرْوة:
يَكشِف التَّخريج أنَّ هِشام بن عُرْوة لم يتفرَّد برِواية هذا الحديث عن أبيه عُروة بن الزُّبير، وقد تابَعه الزُّهريُّ، ورِوايته أخرَجها الإمام مسلم[55] في الصَّحيح؛ مِن طريق مَعمَر، عن الزُّهريِّ، عن عُروة، عن عائشة، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّجها وهي بنت سبْع سِنين، وزُفَّت إليه وهي بنتُ تسْع سِنين ولُعَبُها معَها، وماتَ عنها وهي بنتُ ثَمانِ عشْرَة.

والزُّهريُّ هو: محمَّد بن مُسلِم بن شِهاب الزُّهريُّ، شيخ الإمام مالك بن أنَس، وهو مِن كِبار أئمَّة أهْل الحِجاز، وهو عِند مالك في مكان رفيع.

فالحَديث إذًا بدأَ في المَدينة وفيها عُرِف، قبْل أن يَكون عراقيًّا، كما أنَّ عُروة بن الزُّبَير نفْسَه لم يتفرَّد بهذا الحديث عن عائشة، فيما سيأتي بيانُه في المطلب التالي.

المطلب الخامِس: مُتابَعة الرُّواة لعُروةَ بن الزبَير نفْسِه:
وفوق كلِّ ذلك، فلم يتفرَّد عُروة نفسُه برِواية هذا الحديث عن خالَتِه أمِّ المُؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقد رَواه عنها جماعةٌ مِن التابِعين، منهم:
الأسود بن يَزيد، ورِوايته أخرجها الإمام مسلم[56] مِن طريق الأعمَش، عن إبراهيم، عنه، عن عائشة، قالتْ: تزوَّجها[57] رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي بنْتُ ستٍّ، وبنَى بها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنتُ ثمان عشْرة.

ورواهُ عنها أيضًا القاسِم بن محمَّد بن أبي بكْر الصدِّيق، ورِوايَته أخرَجها ابن أبي عاصِم[58]، والطبَرانيُّ في "المُعجم الكبير"[59]، كِلاهما مِن طَريق سعْد بن إبراهيم، عنه، عن عائشة، بنحْوِه.

ورواه عنها عبدالله بن أبي مُلَيكَة، ورِوايته أخرَجها النَّسائيُّ في السُّنن الكُبرى[60]، والطبَرانيُّ في المُعجمَين الكبير[61] والأوسط[62]، مِن طريق الأَجْلَح، عنه، عن عائشة، به.

ورواه عنها أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عَوف، وروايته أخرجها النَّسائيُّ في السُّنن الكُبرى[63]، مِن طريق محمَّد بن إبراهيم، عنه، عن عائشة.

ورواه عنها عبدالملك بن عُمَير، ورِوايَته أخرَجها الطبرانيُّ[64]مِن طَريق أبي عوانة اليَشكُريِّ، عنه، عن عائشة، بسياق آخِر، بمعناه.

ورواه عنها يحيى بن عبدالرحمن بن حاطِب، ورِوايته أخرَجها أبو يَعلى[65]مِن طريق محمَّد بن عمْرو، عنه، عن عائشة.

ورواه عبدالرحمن بن الضحَّاك، وروايته أخرجها الحاكم في المُستدرَك[66]، مِن طَريق إسماعيل بن أبي خالد، أنبَأ عبدُالرحمَن بن الضحَّاك، أنَّ عبدالله بن صفْوان، أتَى عائشة وآخَرُ معه، فقالت عائشة لأحدهما: "أَسَمِعْتَ حديث حَفصة يا فلان؟" قال: نعم يا أمَّ المُؤمِنين، فقال لها عبدالله بن صفْوان: وما ذاك يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: "خِلالٌ لي تِسْعٌ لم تكنْ لأحَدٍ مِن النساء قبلي، إلا ما آتى الله - عزَّ وجلَّ - مريم بنت عِمران، والله ما أقول هذا إني أفخرُ على أحد مِن صَواحِباتي"، فقال لها عبدالله بن صفوان: وما هنَّ يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: "جاء المَلَك بصُورتي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ابنة سبْع سِنين، وأُهدِيتُ إليه وأنا ابنة تسْع سِنين، وتزوَّجَني بكْرًا لم يَكنْ في أحد من الناس، وكان يَأتيه الوحْي وأنا وهو في لِحافٍ واحِد، وكنتُ مِن أحبِّ الناس إليه، ونزَل فيَّ آيات مِن القرآن كادَتِ الأمَّة تهلِك فيه، ورأيتُ جبريل - عليه السلام - ولم يرَه أحد مِن نسائه غيري، وقُبِض في بيتي، لم يَلِهِ أحد غير المَلَك إلا أنا"؛ قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِجاه، ووافَقه الذهبيُّ في التَّلخيص.

ورواه عنها أبو عُبَيدة بن عبدالله بن مسعود، وروايته أخرَجها ابن سعد[67]، والطبَرانيُّ في المُعجم الكبير[68] مِن طَريق سُفيان الثوريِّ، ومِن طَريق شَريكٍ، وأخرَجها النسائيُّ في السُّنن الكُبرى، والطبرانيُّ في المَصدَر السابِق، مِن طريق مُطرِّف بن طَريفٍ، جميعهم - سُفيان، وشَريك، ومُطرِّف - عن أبي إسحاق، عنه، عن عائشة[69].

واختُلف على أبي إسحاق، فأخرجه النسائيُّ في السنن الكُبرى[70] فقال: أخبرنا إسْحاق بن إبراهيم بن راهوَيْه، قال: أنا يَحيى بن آدم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبَيدة، عن أبيه، قال: تزوَّج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وهي بنت ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنت تسْع.

قال أبو عبدالرحمن النسائيُّ: مُطرِّف بن طَريفٍ الكُوفيُّ أثبَتُ مِن إسرائيل، وحديثُه أشبَه بالصَّواب، والله أعلم؛ اهـ.

المطلَب السادِس: انتِفاء ظهور هذا الحَديث في كتُب العِلَل مُطلقًا:
لمْ يَألُ عُلماء الحديث جهدًا في الذَّود عن سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهُمْ بعدَ أنْ دوَّنُوها وصانوها، قاموا بتَمحيصِها، ونقْد أسانيدها ومُتونها، والإمام البُخاريُّ واحِد مِن أمْهَر النُّقَّاد؛ فقد اتَّخذَ عليَّ بن عبدالله بن جعْفر - المشهور بابن المَدينيِّ - شيخًا له في مَعرِفة علْم العِلَل، وكان عليٌّ - رحمه الله - مُقدَّمًا في مَعرِفة العِلَل، فهضَم أبو عبدالله البُخاريُّ علْمَ ذلك الإمام، فأمكَنه ذلك مِن إخْراج كتابه الجامع الصَّحيح المُسنَد، ولم يَكنْ أبو الحُسَين مُسلم بن الحجَّاج القُشَيريُّ قد هامَ بحبِّ البُخاريِّ لولا أنه أيقَن أنه بحْر لا يُمخَر، فلمَّا لَقِيَه قبَّل بين عَينيه، وقال: دعْني أُقبِّل رجلَيكَ يا أستاذ الأُستاذِين، وسيِّد المُحدِّثين، وطَبيب الحَديث في عِلَلِه[71].اهـ.

وقد خلتْ جميع كُتب العِلَل عن ذكْر علَّةٍ لهذا الحَديث، ولم تُورِد فيه اختِلافًا على هِشام، ولا تَضعيفًا؛ إذ لم يذْكرْه الإمام أحمد في العِلَل إلا في مَعرض التعريف بالرجال، ولم يَذكرْه أبو عيسى الترمذيُّ، ولا الخَلَّال، ولم يَرِد في العِلَل لابن أبي حاتم الرازيِّ، ولا في العِلَل للدارقطنيِّ، ولا في الكامل لابن عديٍّ، ولم يَرِدْ أيُّ تَعليل له في كتاب مَعرِفة السُّنن للحافظ البَيهقيِّ، فكيف يأتي هذا الغرُّ الجاهِل لِيَطعنَ فيه، ولو صحَّ طعْنُه لنَفذَ إلى أحاديث كثيرة رواها هِشام، عن أبيه، وحمَلها عنه أهل العلْم في شتَّى الأمْصار، وهي في صَحيح البُخاريِّ، وغيره مِن دواوين السنَّة المُشرَّفة؟ أم إنَّها شِنْشِنَة مَعروفة مِن قِدَم؟

وعلى هذا؛ فإنَّ القدْح في رِواية هِشام بن عُرْوة بمثْل هذه المزاعم التي لا تَنفُقُ إلا في سوق العوامِّ، ولا تَنطلِي إلا على الجهَلة الطغام، ورَاءه ما وراءه مِن أغراض باعِثُها الإحنُ والأحْقاد.

ويِبقى معِنا أمر يِلزم التنبيهُ إليه، وهو أنَّ جميع هذه الرِّوايات المُتقدِّمة قد اتَّفقتْ على أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد بنى بأمِّ المؤمِنين عائشة - رضي الله عنها - وهي بنت تسْع سِنين، ولم يَختلِف الرُّواة في ذلك، لا في حديث عُروة، ولا في أحاديث مَن تابعوه، ولا أحاديث مَن تابَعوا أباه، ولكن اختَلفتْ رِواياتهم في سنِّها عِند عُقدة النِّكاح، فأغلَبُهم قال: ستُّ سِنين، وبعضهم قال: سبْع سِنين، وبعضهم رواه بالشكِّ بين ستِّ وسبْع سِنين، ويُحمَل كل ذلك على تقدير الشهْر الذي تمَّ فيه العقْد، مُقارنةً بين السنَة التي دخل عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ ذلك كان على التَّقريب في قَول مَن قالوا: سبْع سنين؛ لأنَّ أغلَب الرُّواة قالوا: ست سِنين، وهو أمْر مُحتمَل في مسألة تَقدير العُمر، وقد وضَّح كلَّ ذلك الحافظُ ابن حجَر العسْقلانيُّ في "فتح الباري"[72]، بل إنَّ الواقِف على شرْحه لَيَشعُر بالمَضاضَة لقَول هؤلاء الأوباش بأنَّ المُتقدِّمين قد فاتَهم الانتِباه لهذه المسألة.

وقال شمسُ الدِّين ابن القيِّم في "تهذيب سنن أبي داود"[73]: وليس شيء مِن هذا بمُختَلِف؛ فإنَّ عَقْده عليها كان وقد استَكملَتْ ستَّ سِنين، ودخَلتْ في السابِعة، وبناؤه بها كان لِتسْعِ سِنين مِن مَولدها ... اهـ.


المطلب السابع: شواهد حديثيَّة على صِغَر سنِّ عائشةَ - رضي الله عنها -:
تقدَّم معَنا حديث الزُّهريِّ عن عائشة الذي أخرَجه مسلم في زَواج عائشة، وأنها زُفَّتْ للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولُعَبُها معَها، وهو ليس مِن أحاديث أهْل العِراق عن هِشام، ثمَّ يتأكَّد ذلك بما أخرجه الشَّيخان: البُخاريُّ[74] مِن طريق أبي مُعاويَة، ومُسلم[75]مِن طَريق عبدالعزيز بن محمَّد، كلاهما - أبو معاوية، وعبدالعزيز - عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة؛ أنها كانت تَلعَبُ بالبَنات عِند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: وكانتْ تأتيني صَواحِبي، فكُنَّ يَنقَمِعْن مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُسرِّبهنَّ إليَّ، واللفْظ لِمُسلِم.

وهذا الحَديث أخرَجه عَبدالله بن الإمام أحمد في وجاداتِه في مُسند أبيه[76]، عن عامر بن صالِح، وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا في "العيال"[77]: مِن طريق عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجِشُون، وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا أيضًا مِن طريق جرير بن عبدالحميد، وأخرَجه أبو جعفر بن البخْترِيِّ، مِن طريق هُرَيْم بن سُفيان، وأخرَجه الطبَراني في "المُعجَم الأوسَط"[78]، مِن طَريق جَرير بن حازم، خمستهم - عامر بن صالح، وابن الماجِشُون، وجَرير بن عبدالحَميد، وهُرَيم، وجَرير بن حازِم - عن هِشام بن عُرْوة، به.

وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا في "العيال" أيضًا مِن وجْه آخَر[79]، فقال: حدَّثني أبي، وإسحاق بن إسماعيل، حدَّثنا هُشَيم، عن يَحيى بن سَعيد، عن محمَّد بن إبراهيم التَّيميِّ، عن عائشة، قالتْ: دخَل عليَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ألعَبُ بالبَنات فقال: ((ما هذا؟)) قالتْ: "خَيل سليمان بن داود"، فضَحِك.

وأخرَج ابن سعْدٍ في "الطبَقات الكُبرى"[80]، والخطيب البغدادي[81]؛ كلاهما مِن طَريق عُبيدالله بن عُمر، عن يَزيد بن رومان، عن عُروة، عن عائشة قالت: "كنتُ ألعَبُ بالبنات على عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه و سلَّم -".

وأخرَج ابن حبَّان في "الصَّحيح"[82]: مِن طريق أبي النضر، عن عُروة، عن عائشة، أنها قالت: دخَل عليَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا أَلعَبُ باللُّعَب، فرفَع السِّتْر، وقال: ((ما هذا يا عائشة؟)) فقلت: "لُعبٌ يا رسول الله"، قال: ((ما هذا الذي أرى بينهن؟)) قلتُ: "فرَسٌ يا رسول الله"، قال: ((فرَسٌ مِن رِقاع له جَناح؟!)) قالت: فقلتُ: "ألم يَكنْ لسُلَيمان بن داود خَيل لها أجنِحَة؟" فضَحِكَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وأخرج الحُمَيدي، وابن أبي عاصِم، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير"[83]، مِن طَريق سُفيان بن عُيَينة، قال: ثنا سَعيد بن المَرْزُبان، عن عبدالرَّحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليَّ حَوْفٌ، فما هو إلا أنْ تزوَّجَني، فألقَى عليَّ الحَياء".

قال سُفيان: والحَوفُ ثيابٌ مِن سُيور تُلبِسُه الأعْرابُ أبناءهم.

وقَولها - رضي الله عنها -: فألقَى عليَّ الحياء؛ أيْ: إنها استَحتْ عن لبْسِه بعد ذلك، وهذا يعني أنها كانت صغيرةً لم تَفقَهْ معنى الحياء؛ إذ لو كانت كبيرةً ولم تكنْ حييةً - وحاشا لأمِّ المؤمِنين أن تكون كذلك - لزُجِرَتْ، وحُمِلَتْ على الحياء حمْلاً، على عادة الناس إلى يومِنا هذا، وكيف لا يُلقَى عليها الحياءُ وقد قضى الله - تبارك وتعالى - أنْ تكونَ زوجًا لرسوله الكريم - صلوات ربي وسَلامه عليه - وأُمًّا للمُؤمنين بنصِّ القُرآن العظيم؟!

ولا شيء أقوى دلالةً على صِغَرِها مِن لبْسِها الحَوف، وهو لباسٌ مِن جلْد مُشقَّقٍ، على هيئة الإزار، يَكاد لا يَستُر أبدًا، تَلبَسُه صِغار السنِّ مِن الفتيات دون سنِّ البُلوغ، ويُسمَّى الرَّهط[84] - بالهاء - وأهْلُنا في السُّودان كانوا يَنطِقونه بالحاء المُهمَلة المَفتوحة بدَلَ الهاء، وكان شِعارًا لنَوع مِن العطْر المَصنوع في السودان يُسمَّى: (بنت السُّودان).


المبحث الثالث: نقْد منهج النقْد الذي انتهَجه الناقد:

المطلب الأول: منهَجُه في حِساب عُمر عائشة عِند البِناء بها:
ذهَب الناقِد إلى أنَّ أسماء تَكبُر عائشة - رضي الله عنهما - بعشْر سَنوات فقط، وأكَّد أنَّ هذه الإفادة قد وردَتْ في كافَّة المَصادِر التاريخيَّة حسَب زعْمِه، دون أن يُعمِل في ذلك منهَج النُّقَّاد، وأنَّى له ذلك؟ فهو كخائض في بحْر لا يَدري ما في قَعْره، فهذا القول لم يَرِد إلا عِند المُتأخِّرين نقْلاً عن عبدالرَّحمن بن أبي الزِّناد؛ وهو ما أشار إليه الحافظ البَيهقيُّ بقوله[85]: وفيما ذكَر أبو عبدالله بن مَنْدَه حِكايةً عن ابن أبي الزِّناد أنَّ أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر مِن عائشة بعشْر سِنين. اهـ.

وهذه الرِّواية عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد أخرَجها الحافظان ابنُ عبدالبرِّ[86]، وابن عَساكر[87]؛ مِن طَريق الأصمَعيِّ، عنه، مِن قوله، وهي غير متَّصلة الإسناد، ويَدحَضُها أنَّ عبدالرحمن بن أبي الزِّناد نفْسَه قد جاءتْ روايتُه عن هِشام بن عُرْوة لنفْس الحَديث الذي طعَن فيه هذا المُشكِّك المُتطاول، وقد تقدَّم ذكْرُها، وقد رفَع عُلماء الحَديث مِن رِواية ابن أبي الزِّناد عن هِشام، واعتبروها مِن جيِّد رِواياته، حسب قول الإمام يحيى بن معين المُتقدِّم ذكْرُه.

وليس أقوى في بيان ضعْف هذا القَول المنسوب لابن أبي الزِّناد مِن كونه مُنقَطِع بيِّن الانقِطاع؛ فعبدالرحمن بن أبي الزِّناد بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - مَفازة تَنقَطِع دونها أعْناق الرَّواحل؛ فقد وُلد في سنة مائة مِن الهجرة، وتوفِّيَ في سنَة أربع وسبعين بعد المائة[88]!

وقد تقدَّم معَنا أنه مُقدَّم في هِشام بن عُرْوة، وهِشام هو الواسطة بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - وعليه فإنَّ ما نُسِب إليه مِن قولٍ - إنْ صحَّ عنه، وهو ليس بصَحيح - فيُحمَل على الوهم الذي لا يَكاد يَسلَم منه بَشرٌ.


المطلب الثاني: ذهاب الناقِد إلى انعِدام الدقَّة لدى جَميع المُتقدِّمين:
فكأنَّ المُتقدِّمين أوباش - في نظر "إسلام بحيري" - لا همَّ لهُمْ إلا جمْع النصوص، ولا شأن لهم بتَمييز سقيمِها مِن صَحيحِها، وقد زعَم فيما زعم أنه رجَع فيما رجَع إلى "سِيَرِ أعلام النُّبَلاء"، وهو بذلك أحد رجلين؛ فإما أن يكون جاهِلاً بما قرأ، فلم يَستوعِب الإشارة النَّقديَّة القويَّة الواضِحة في تَعليق الحافظ الذهبيِّ، أو أنه عَلِمها وتغاضى عنها لشيء في نفسِه؛ فإنَّ الحافِظ الذهبيَّ ذكَر أسماء - رضي الله عنها - في السِّيَر[89]، فقال: وهي وابنُها عبدالله، وأبوها أبو بكر، وجدُّها أبو قُحافة صحابيُّون، أضرَّت بأَخَرة[90]، قال ابن أبي الزِّناد: كانتْ أكبر مِن عائشة بعشْر سنين، قلتُ - والكلام للحافظ الذهبيِّ -: فعلى هذا يكون عُمرها إحدى وتِسعين سنةً، وأمَّا هِشام بن عُرْوة، فقال: عاشتْ مائةَ سنةٍ، ولم يَسقُطْ لها سنٌّ. اهـ.

وما ذهَب إليه الحافظ الذهبيُّ هو تأكيد لتدبُّر السلف للرِّوايات؛ إذ إنه وصَل إلى ذلك بطريقة حسابيَّة صَحيحة، فقد بنَى على سنِّ عائشة - رضي الله عنها - عند وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ثماني عشْرةَ سنَة، يُضاف إليها سبعٌ وأربعون سنَةً، هي ما عاشتْه بعد وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَكون عُمرها خمسًا وستِّين سنة، يُضاف إليها عشر سِنين فرْق العُمر بينها وبين أسماء - على زعْم صحَّة الرِّواية عن ابن أبي الزِّناد - ثمَّ يُضاف الفرْق بين تاريخ وفاة عائشة وتاريخ وفاة أسماء - رضي الله عنهما - وهو ستَّ عشرةَ سنَة، فيَكون عُمر أسماء إحدى وتِسعون سنة بحسب ما نُسب إلى ابن أبي الزِّناد، وليس مائة سنة في المشهور عن هِشام بن عُرْوة، وهذه هي الإشارة النقديَّة التي كان واجبًا على "إسلام بحيري" أن يتأمَّلها، بَيْدَ أنه مع ذلك يُصرُّ على أنَّ المصادِر التاريخيَّة قد أجمعتْ على أنَّ عُمر أسماء - رضي الله عنها - مائة سنة، وهو بذلك لا يُدرِك أنَّ القول بأنَّ الفرق بينها وبين عائشة عشر سنين فقط، يتَعارض مع القول بأنَّ عُمرها مائة سنَة، مع أنَّ القول بأنَّ فرْق ما بين الأختَين عشْر سِنين أمرٌ يَدحضُه الحساب، وهو قد بنَى نقْده على الحِساب المجرَّد!

وثمَّة أمْر آخَر يَنبغي لكلِّ مُدقِّق أنْ يَقف عِنده؛ فقد ترجَم أبو نُعيم الأصْبَهانيُّ الحافظ في "معرفة الصحابة"[91] أسماء - رضي الله عنها - فقال: أسماء بنت أبي بكر الصديق، أمُّ عبدالله بن الزُّبَير، كانت تُعرَف بذات النِّطاقَين، كانتْ تحت الزُّبَير بن العوَّام، فولدتْ له عبدالله، وعُروة، والمُنذِر، ثمَّ طلَّقها، فكانت عِند ابنِها عبدالله، كانتْ أختَ عائشة لأبيها، وكانت أسنَّ مِن عائشة، ولدتْ قبْل التأريخ بسبع وعِشرين سنَةً، وقبْل مَبعَثِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعَشْر سِنين، وولدتْ ولأبيها الصدِّيق يوم ولدتْ أحد[92] وعشْرُون سنةً، توفِّيَتْ أسماء سنَة ثلاث وسَبعين بمكَّة بعد قتْل ابنِها عبدِالله بن الزُّبَير بأيام، ولها مائة سنة وقد ذهَب بصَرُها، أمُّ أسماء وأمُّ عبدالله بن أبي بكْر: قُتَيلَة بنت عَبدالعُزَّى بن عبد أسْعد[93] بن نصْر بن مالك بن حَسَل، روى عن أسماء عبدُالله بن عباس، وابنُها عُروَة بن الزُّبَير، وعبَّاد بن عبدالله بن الزُّبَير، وأبو بكْر بن عبدالله بن الزُّبَير، وعامِر بن عبدالله بن الزُّبَير، ووهْب بن كَيْسان، والمُطَّلب بن عبدالله بن حَنطَبَ، وعبدالله بن أبي مُلَيكة، ومحمَّد بن المُنكَدِر، وطلْحَة بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكْر، وفاطِمة بنت المُنذِر بن الزُّبَير، وصفيَّة بنت شَيبة الحجَبِيُّ، في آخَرين. اهـ.

وما ذكَره أبو نُعيم يَكشِف عن خَطأ ما نُسِب إلى ابن أبي الزِّناد، فبخصْم إحدى وعِشرينَ سنةً مِن عُمرِ أبي بكْر - رضي الله عنه - وهو عُمْره عِند ولادَة بنتِه أسماء - يُصبِح الناتج إحْدى وأربعين سنة، هو عُمر أسماء عِند مَوت أبيها - رضي الله عنهما - فإذا أضيف له ما عاشتْه بعد وفاة أبيها، وهو تِسعٌ وخَمسون سنةً، عِند موتِها في سنة ثلاث وسبعين، فيكون هذا مُخالِفًا لمؤدَّى ما رُوِيَ عن ابن أبي الزِّناد، ومُوافِقًا لما هو مَشهور عن هِشام بن عُرْوة، وهو ما يتوافق بالتَّقريب مع قول أبي نُعَيم الآخَر؛ بأنها ولدتْ قبْل التأريخ - أي قبْل الهِجرة - بسبْع وعِشرين سنة، ولو أضيف ما عاشتْه قبل الهجرة مع ما عاشته بعدَها، كان ذلك هو قول هِشام بن عُرْوة نفسه، وعليه؛ فإنَّ القول بأنَّ بين أسماء وعائشة عشر سنوات قولٌ غير صَحيح، وقد وقَف عِنده الحافظ الذهبيُّ ناقدًا بصيرًا، ولم يُعوِّل عليه الحافظ أبو نُعيم الأصبَهانيُّ، وإنْ كان قول أبي نُعَيم بأنَّ أسماء ولِدَتْ قبل مبعَثِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعَشر سِنين، قول غير صَحيح أيضًا.

المطلب الثالث: مُناسَبة عُمرِ عائشة للزَّواج:
قد يَرفُض البعض هذه السنَّ للزَّواج؛ بحجَّة أنها دون سنِّ البلوغ، ولكنَّ الحافِظ البَيهَقِيَّ - رحمه الله - قد كَفانا التَّعَب في هذا الشأن، فبوَّب في "السُّنن الكُبرى" بابًا بعُنوان: (السنُّ التي وُجِدت المرأة حاضَتْ فيها)[94]، ثم رَوى بسنده إلى الإمام الشافعيِّ - رَحِمَه الله - أنه قال: رأيت بصنْعاء جدَّةً بنتَ إحدى وعِشرينَ سنَة، حاضَت ابنةَ تِسْعٍ، ووَلَدت ابنَة عشْر، وحاضَت البنتُ ابنَة تِسعٍ، وولَدت ابنة عشْر. اهـ.

وقال الحافِظ البَيهقيُّ عَقِب ذلك: ويُذكَر عن الحَسن بن صالح، أنه قال: أدركْتُ جارةً لنا صارتْ جدَّةً بنتَ إحدى وعِشرين سنَة، وعن مُغيرَة الضبَّيِّ أنه قال: احتلمْتُ وأنا ابن اثنتَي عشْرة سنَة، ورُوينا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: إذا بلغَتِ الجارِيَة تِسعَ سِنين، فهِيَ امْرأة؛ تَعني - والله أعلم - فحاضَتْ فهي امْرأة[95]. اهـ.

وقد جرَتْ عادة الأقْدَمين على التبْكير بتَزويج أولادِهم صغارًا؛ فقد أخرَج الإمام مالك في "الموطَّأ"[96] عن نافع؛ أنَّ ابنة عُبيدالله بن عُمر - وأمُّها بنتُ زَيد بن الخطَّاب - كانت تحتَ ابنٍ لِعَبدالله بن عُمر، فمات ولم يَدخُل بها، ولم يُسمِّ لها صَداقًا، فابتغَتْ أمُّها صَداقها، فقال عبدالله بن عُمر: ليس لها صَداق ولو كان لها صَداق لم نُمسِكْه ولم نَظلِمْها، فأبتْ أمُّها أنْ تقبَل ذلك، فجعلوا بينهم زَيد بن ثابت؛ فقضَى أنْ لا صَداق لها ولها المِيراث.

وأخرجه الطَّحاويُّ في "بيان مُشكل الآثار"[97]، بلفْظٍ صرَّح فيه بصِغَر ابن عَبدالله بن عُمر، مِن طريق سُليمان بن يَسار، أنَّ ابن عُمر زوَّج ابنًا له ابنَة أخيه عُبيدالله بن عُمر - وابنُه يومئذٍ صَغير - ولم يَفرِض لها صَداقًا، فمكَث الغُلام ما مكَث، ثمَّ مات، فخاصَم خالُ الجارِيَة ابنَ عُمرَ إلى زيد بن ثابت، فقال ابن عُمر لزَيد بن ثابتٍ: زوَّجتُ ابني وأنا أُحدِّث نفْسي أنْ أصنَع به خَيرًا، فمات قبْل ذلك، ولم يَفرِض للجارِيَة صَداقًا، فقال زيد: لها المِيراث إنْ كان لِلغُلام مال، وعليها العدَّة، ولا صَداق لها.

وأخرَج سَعيد بن منصور في سُنَنه[98]عن أبي مُعاوية، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، أنه قال: دخَل الزُّبَير بن العوَّام على قُدامة بن مَظعون يَعودُه، فبُشِّر زُبَير بجارية، وهو عنده، فقال له قُدامة: زوِّجْنيها، فقال الزُّبَير بن العوام: ما تَصنع بجارِيَة صَغيرة، وأنت على هذا الحال؟ قال: بلى، إنْ عِشتُ، فابنَة الزُّبَير، وإنْ متُّ، فأحبُّ مَن وَرِثني، قال: فزوَّجَها إيَّاه.

وأخرَج ابن أبي شَيبة[99] عن عَبدة بن سُليمان، عن هِشام، عن أبيه، أنَّ الزُّبَير زوَّج ابنةً له صغيرة حين نَفِسَتْ.

وأخرَج ابن أبي شيبة[100]، عن أبي معاوية، عن هِشام، عن أبيه، أنه زوَّج ابنًا له ابنةً لمُصعَب صَغيرةً.

وأمَّا زعْم "إسلام بحيري" بأنه ما اجتَهد في ذلك إلا لغيرَتِه على رسول الله - صلَّى عليه وسلَّم - فهو زعْمٌ غير صَحيح؛ إذْ إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان ليُرجِئ دُخوله بعائشة - رضي الله عنها - لولا أنَّها كانتْ صَغيرةً، فلما أدركَتْ وبلغَتْ سنَّ النِّساء وهي في التاسِعة، دخَل بها - صلوات ربي وسلامه عليه - وهذا يتأكَّد بما تقدَّمتْ نِسبتُه إلى عائشة - رضي الله عنها - مما رواه البَيهقيُّ، وعلَّقه التِّرمذيُّ، عنها - رضي الله عنها -: "إذا بلغَتِ الجارية تِسعَ سنين، فهِيَ امرأة؛ تعني - والله أعلم - فحاضَتْ فهي امرأة". اهـ.

وذكَر الحافِظ أبو عُمر بن عبدالبرِّ في التَّمهيد[101] ما قاله عبدالله بن محمَّد بن عَقيل، بأنَّ مَسألة اختِلاف السنِّ عِند عُقدة النِّكاح، فقال: هذا أكثَرُ ما قيل في سنِّ عائشةَ في حين نِكاحِها، ومَحمَل هذا القول عِندنا على البِناء بها، ورواية هِشام بن عُرْوة أصحُّ ما قيل في ذلك مِن جِهَة النقْل، والله أعلم.

المطْلَب الرَّابع: زعْمُه تَكذيب ابن حجَر للحَديث، وتَعويل الناقد على تَعارُضِه مع حَديث آخَر في "صَحيح البُخاريِّ":
فأمَّا زعْمُه بأنَّ الحافِظ ابن حجَر قد كذَّب الحَديث، فهو أمر مُضحِك جدًّا، ولا يُلتفَتُ إليه، فلو أنه نظَر في "فتح الباري"، أو عرف ما بذله الحافظ ابن حجر في تَغليق التَّعليق، لَما قال هذا القول، ولكنَّه أَجهَل مِن حِمار أهلِه.

وأمَّا تَعويله على الحَديث الآخَر الذي ورَد في "صَحيح البُخاريِّ"[102]، عن عائشة - رضي الله عنها - مِن طَريق عَقيل، عن ابن شِهاب، قال: أخبرني عُروة بن الزُّبَير، أنَّ عائشة زَوْج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: "لمْ أَعقِلْ أبَويَّ إلا وهُما يَدينان الدِّين، ولم يَمُرَّ علَينا يومٌ إلا يَأتينا فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - طرَفَي النَّهار بُكرةً وعشيَّةً، ثمَّ بَدا لأبي بكر فابْتَنى مَسجِدًا بفِناء دارِه، فكان يُصلِّي فيه، ويَقرأ القُرآن، فيَقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يَعجبُون منه، ويَنظُرون إليه، وكان أبو بكْر رجلاً بكَّاءً لا يَملِك عينَيه إذا قرأ القرآن، فأفزَع ذلك أشرافَ قُرَيش مِن المُشركين".

وقد أراد أن يَستشْهِد بأنَّ عائشة لما عَقَلتْ في ذلك العهد، فهذا يَعني أنها أسلمَتْ قبْل الجهْر بالدَّعوة، ولكنَّه لو تابع تَعدُّد الرِّوايات لهذا الحديث في "صَحيح البُخاري" وحده لوجَدها في نحو عشرة مَواضِع في الصَّحيح، وتُفيد بعض هذه الرِّوايات بأنَّ أبا بكْرٍ لما طلَب الإذن بالهِجرة إلى الحبَشة، أمره الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالتأنِّي، وقد فَهِمَ الإشارة، فبدأ يتهيَّأ للهِجرَة إلى المدينة وليس إلى الحبَشة، وهذا يعني أنَّ ذلك كان بعد مُضيِّ تِسع سَنوات على البعْثَة، وهو ما يَجعل عائشة تَعقِل كلَّ شيء في ذلك العهد، وقولها: "لم أَعقِلْ أبَويَّ إلا وهما يَدينان الدِّين" حجَّة عليه لو تأمَّل، وأنَّى له ذلك؟ فسُبحان الله!

المطلب الخامس: زَواج أبي بكْر الصدِّيق مِن أمِّ رومان - رضي الله عنهما -:
كانتْ أمُّ رومان والدة عائشة - رضي الله عنهما - تحت عبدالله بن الحارث بن سَخْبَرة الأسَدِيِّ، الذي قَدِم مكَّة فحالف أبا بكْر واستقرَّ بمكَّة قبْل البعْثَة، فأنجبَتْ له الطُّفَيل[103]، فهو أخو عائشة لأمِّها، فلمَّا مات عبدالله بن الحارث، خلَفه أبو بكر على أمِّ رومان، فأنجبَتْ له عبدالرَّحمن وعائشة، والناظِر المُدقِّق يَجد أنَّ زَواج أبي بكْر لأمِّ رومان - رضي الله عنهما - كان بعد مدَّة طَويلة مِن ولادة أسماء - رضي الله عنها - ذلك أنا نَجِد تَقارُبًا واضِحًا بين عائشة وبين أخيها لأمِّها، ونَجدُه مَذكورًا في صِغار الصَّحابة، وكذلك نَجِد عبدالله بن أبي بكْر شقيق أسماء وأخا عائشة لأبيها أيضًا مِن شَباب الصَّحابة[104]، وهو مؤشِّر إلى أنَّ العِشرَة الزَّوجية بين الصدِّيق وقَيْلَة أمِّ أسماء استمرَّتْ طويلاً، مما يدلُّ على أنَّ ما بين أسماء وعائشة ليس عشْر سنَوات فقط كما رُوي عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد - رحمه الله - وكلُّ ذلك يؤكِّد بأنَّ عائشة - رضي الله عنها - كان عُمرها عِند زواجها ستَّ أو سبع سنَوات، وتسع سنوات عِندَ البِناء بها، وذلك بشَهادة الجمِّ الغَفير مِن الصَّحابة، ومِن أهْل الحَديث والتاريخ.

الخاتمة:
اتَّضح - ممَّا تقدَّم - أن هذا النقْد لم يَقُمْ على ساقٍ، وهو مُخالِف لمنهَج نُقَّاد الحَديث والعارِفين بعِلَلِه، وبالتَّسليم له تَنهار قَواعِد التَّحديث التي أقامَها جَهابِذَة المُحدِّثين، فهِشام بن عُرْوة روى عنه العِراقيُّون بالاشتِراك مع غيرهم مِن أهْل الحِجاز، فلو قُلْنا بترك رواية العراقيِّين عنه دون تقييد، لكانتْ هذه قاعِدةً في التَّحديث نافِقةً في سوق الجهَلة، لا أساس لها في قواعِد المُحدِّثين، ولو قُلْنا بترْك ما انفرَد به العراقيُّون مُطلَقًًا، لما وجَدْنا ذلك أصلاً، فإنَّ إمامًا جليلاً مثْل هِشام بن عُرْوة، لا يُمكِن أن يَظهر حديثُه في بلد غير بلد نشأته ومَوطِن تَعلُّمه، ثمَّ لا يَرويه أحد مِن أهْل بَلدِه، ولو سلَّمْنا بوجود حديثٍ كهذا، لظهَر لنا أنه حَديث مَعلول بعلَّة يَعرِفها خُبراء العِلَل، أو أنه مَسروق أو موضوع، وبذا يتَّضح أنَّ "إسلام بحيري" لا عَلاقة له بهذا العلْم النَّفيس، وقد وضَح أنه لا يُجيد حتَّى الحِساب، وقد روَّج "جَمال البنا" لبِضاعة كاسِدَة لا يَعرِف دخيلتَها، فهُما إمَّا أن يَكونا جاهِلَين، أو صاحِبَي غرَض، والله المُستعان.

وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِكْ وأَنعِمْ على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه.

[1] صحفِيٌّ مِصريٌّ، وهو ابن الشَّيخ أحمد عبدالرَّحمن البنَّا الساعاتيِّ، وأخو الشَّهيد - بإذن ربِّه - حسَن البنَّا، فسُبحان الذي يُخرِج مِن البَيت الواحِد أخيارًا وأشرارًا!
[2] "ميزان الاعتدال" (6: 59).
[3] انظر ذلك في ترجمة هِشام بن عُروة في "تهذيب الكَمال في أسْماء الرجال" للحافِظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ؛ (30: 236)، وترجمة الإمام مالك بن أنس في الكتاب نفْسِه؛ (27: 104).
[4] مِن ترجَمتِه في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ؛ (30: 232)، ومن "ميزان الاعتدال في نقْد الرِّجال" للحافظ الذهبيِّ (7: 85).
[5] إمام حافِظ مُجوِّد، حدَّث عن الإمام البُخاريِّ وجماعة، وعنه أبو القاسم البَغَويُّ، وجماعة (ت318هـ)، انظر ترجمته في "سِيَر أعلام النبلاء" (14: 501).
[6] "تاريخ بغداد" (2: 341) طبعة العلامة الدُّكتور بشَّار عوَّاد مَعروف.
[7] "هدْي الساري مُقدِّمة فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاريِّ" للحافظ ابن حجر العَسْقلانيِّ.
[8] هو: عليُّ بن عُمر أحمد، مِن كبار أئمَّة الحَديث (ت385هـ) طبقات الشافعيَّة (1: 161).
[9] هو: أحمد بن عليِّ بن محمَّد بن حجَر الكنانيُّ (ت852هـ)، "الضَّوء اللامِع" للحافِظ السَّخاويِّ، (2: 36).
[10]"هدْي الساري مُقدِّمة فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاريِّ" للحافظ ابن حجر العَسْقلانيِّ (ص: 471) الريان.
[11] "تهذيب التهذيب" للحافِظ ابن حجَر العَسقلانيِّ (4: 275) مؤسَّسة الرسالة.
[12] أيْ أنه يَزيد في الأسانيد، وهذا جرْح غائر في هذا الحافِظ.
[13] أيْ أنه كتَب في الحطِّ مِن خَليفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصدِّيقِ، وفي أمير المؤمِنين الفاروق - رضي الله عنهما - وكان يَرفُض ولايتَهما وشأنَهما كلَّه، على اعتِبار أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - أحقُّ بالأمْر مِنهما.
[14] وهذا أيضًا مِن أمور التشيُّع والرفْض الظاهِرة، والشِّيعة يُضعِّفون هذا الحَديث كما هو مَعروف، والحَديث في "صحيح مسلم" في باب: حُكم الفَيء برقم: (1757)، وهو مِن جنْسِ الطَّعن المَعلوم، فمالِك بن أَوس بن الحَدَثان له رُؤية، والطَّعْن فيه مِن جنْسِ الطَّعْن في الصَّحابة - رضي الله عنهم - وقد ثبَت نحو هذا الحَديث في صَحيح البُخاريِّ مِن حَديث الزُّهريِّ عن عُروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ فاطمة - عليها السلام - والعباس أتَيا أبا بكْرٍ يَلتَمِسان مِيراثَهما؛ أرْضَه مِن فدَك، وسَهمَه مِن خَيبر، فقال أبو بكر: "سَمعتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا نُورَثُ ما تركْنا صدَقة، إنَّما يَأكُل آل محمَّد في هذا المال))، والله لَقَرابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحبُّ إليَّ أنْ أَصِل مِن قَرابتي".
[15] هذا تَعقيبٌ نفيسٌ مِن الحافظ الذهبيِّ على كلام عَبدان، وهو بُرهان واضِح على الاعتِدال في نقْد الإمام الذهبيِّ للرِّجال.
[16] البُندار بضمِّ المُوحَّدة: لفظ دخيل على العربية، وهو: التاجِر يَحتكِر البَضائع ويتربَّص بها غَلاء السِّعر؛ كذا في "المعجم الوسيط" (1: 71).
[17] الكَلام هُنا للحافظ الذهبيِّ - رحمه الله.
[18] قال الشيخ عبدالفتاح أبو غُدَّة في هامش "لسان الميزان": (جزين ومَشْغَرة) قَريَتان مِن قُرى دِمَشْق كان أهلُها مَشهورين بالرَّفْض، والحَواتِر جمع حَوتَريٍّ، وهو لفْظ عامِّيٍّ دارِج في بلادِنا بلاد الشَّام، بلَدِ الحافِظ الذهَبيِّ، ومعْناه: الجاهِل الأزْعَر الطائش. اهـ. قلتُ: الكَلِمة لها نفْس المَدلول عِندنا في السُّودان، والقَول بأنها مِن العاميَّة قول غير صَحيح، ومعناها عِندَنا أيضًا الرَّجُل الذي لا خَير فيه، وهو الذي لا يُعطِي خَيرًا، وانظر: "لسان العرب" لابن منظور؛ (حتر 4: 163).
[19] انتهى كلام الحافظ الذهبي، وهو في "ميزان الاعتدال" (4: 329)، واعتمَد في نقْله على كتاب "الكَمال في ضُعَفاء الرِّجال" لأبي عبدالله بن عديٍّ (4: 321).
[20] "لسان الميزان" للحافِظ ابن حجَر العسْقلانيِّ (5: 149- نسخة العلامة الشيخ عبدالفتَّاح أبو غُدَّة).
[21] "صحيح البُخاريِّ"، في باب: تزويج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وقُدومه المدينة وبنائه بها، برقم: (3894)، وكرَّره سنَدًا ومتْنًا، في باب: البناء بالنهار بغير مَركبٍ، ولا نِيران برقم: (5160)، وكرَّره في باب: الدُّعاء للنِّساء اللاتي يُهدينَ العَروس، برقم: (5156).
[22] في نفْس الباب، برقم: (3896).
[23] في باب: تزويج الأب ابنتَه مِن الإمام، برقم: (5134) وهو مُجتَزأ مِن رقم (3894) في باب: تزويج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وقُدومه المَدينة وبنائه بها.
[24] وروايته أخرَجها البُخاريُّ في الصَّحيح في باب: إنْكاح الرَّجُل ولده الصِّغار؛ لقَولِه تعالى: ﴿ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [الطلاق: 4]، فجعل عِدَّتها ثلاثة أَشهُر قبْل البُلوغ، برقم: (5133).
[25] وروايته أخرجها البُخاريُّ في باب: مَن بنَى بامْرأة وهي بنتُ تِسعِ سِنين، برقم: (5158).
[26] "صحيح مسلم" في باب: تزويج الأب البكْرَ الصَّغيرةَ، برقم: (1422).
[27] أخرَجه ابن حبَّان في "الصحيح" برقم: (7097)، وأبو نُعَيم في "المُستَخرج" (4: 86 برقم: 3310).
[28] هو: محمَّد بن خازِم، بالخاء المُعجَمة، وروايته في "صحيح مسلم" المَوضِع نفسه.
[29] "صحيح مسلم" الموضِع نفسه.
[30] ابن سعْد في "الطبقات الكبرى" (8: 61)، وأبو داود في "السنن"، باب: في تزويج الصِّغار برقم: (2121)، وأبو عوانة في "المسند المُستخرَج على الصَّحيح" برقم: (4265)، وأبو نُعَيم في المُستخرَج على "صحيح مسلم" برقم: (3311).
[31] "مسند الطيالسيِّ" برقم: (1454)، وبرقم: (1557)، و"مسند الإمام أحمد" (6: 280)، و"طبَقات ابن سعْد الكُبرى" (8: 59)، وأبو داود في "السنن"، باب: في الأُرْجوحَة برقم: (4935)، وابن عبدالبرِّ في "التمهيد لما في الموطَّأ مِن المعاني والأسانيد" (19: 108).
[32] ابن أبي داود في "مسند عائشة" برقم: (34)، وابن عبدالبر في "التمهيد"، الموضع نفسِه مَقرونةً مع رِواية حمَّاد بن سلمة.
[33] "الطبقات الكبرى" (8: 60)، و"مسند إسحاق بن راهوَيهِ" برقم: (721)، و"الزُّهْد" لِهَنَّادِ بن السَّرِيِّ برقم: (738).
[34] "المسند المُستخرَج على الصَّحيح" برقم: (4264).
[35] "الطبَقات الكُبرى" (8: 61).
[36] "المسند المستخرج على الصحيح" برقم: (4267).
[37] "سنن البَيهقيِّ الكُبرى" (7: 114).
[38] في "السنن" برقم: (515).
[39] في" معرفة الصحابة" برقم: (6744).
[40] الجرح والتعديل لأبي محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي (9: 195).
[41] مسند الإمام الشافعي، برقم: (829)، وبرقم: (1319)، جمَعه أبو العبَّاس الأصمُّ، عن الرَّبيع بن سليمان المراديِّ.
[42] أخرجه الإمام الشافعي في "اختلاف الحديث" (ص: 516).
[43] أخرجه الحُمَيديُّ في "المسند" (1: 113 برقم: 231).
[44] أخرجه الآجري في "الشريعة" (5: 88 برقم: 1822).
[45] أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23: 24).
[46] أسنده الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10: 238)، ونقله المِزِّيُّ في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (17: 98)، والذهبيُّ في "تذكرة الحفاظ" (1: 182).
[47] "مسند الإمام أحمد" (6: 118).
[48] سليمان بن داود عندي هو: ابن داود بن داود الهاشِمي، وليس كما عرَّفتْ به مجموعة الشيخ شُعيب على أنه الطَّيالسيُّ، وانظر: "مسند الإمام أحمد" طبعة مؤسَّسة الرِّسالة (41: 360) برقم: (24867)، وقد جزَمْتُ بذلك بعد تتبُّع أحاديث ابن أبي الزِّناد في مسند الإمام أحمد.
[49] "المعجم الكبير" (23: 21).
[50] "المُعجَم الأوسَط" (7: 94 برقم: 6957).
[51] "الكِفاية في علم الرِّواية" للخَطيب البغداديِّ (ص: 58).
[52] انظر: ترجمته في "تقريب التقريب" للحافِظ ابن حجر العسقلاني برقم: (5513).
[53] انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافِظ المِزِّيِّ (27: 53)، ترجمة محمد بن يوسف الفِرْيابي.
[54] انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ المِزِّيِّ (27: 56).
[55] "صحيح مسلم" الموضِع السابِق نفْسه.
[56] "صحيح مسلم" الموضِع السابق نفسه.
[57] هذا مِن الالتِفات في الكَلام، كما يقول أهل العربيَّة.
[58] "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصِم النَّبيل (5: 184) برقم: 3007.
[59] "المعجم الكبير" (23: 22).
[60] السنن الكبرى للنسائي (3: 259) برقم: 5365.
[61] "المعجم الكبير" (23: 23).
[62] "المعجم الأوسط" (8: 108) برقم: 8116.
[63] "السنن الكُبرى" للنَّسائيِّ (3: 333) برقْم: 5571.
[64] "المعجم الكبير" (23: 29).
[65] "مُسند أبي يَعلى المَوصِليِّ" (8: 132) برقم: 4673.
[66] "المُستدَرك على الصَّحيحَين" (4: 11).
[67] "الطبقات الكُبرى" (8: 60).
[68] "المعجم الكبير" (23: 23).
[69] وهذا الوجْه قد اختَلف الرُّواة فيه، كما بيَّن ذلك الحافظ الدَّارقُطنيُّ في "العِلَل" (5: 305).
[70] "السنن الكُبرى" للنسائيِّ (3: 333) برقم: 5370.
[71] انظر: "تاريخ بغداد" للخَطيب البَغداديِّ (13: 102) ترجمة الإمام مسلم، و"تهذيب الكمال" للحافِظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ (24: 453)، و"تهذيب الكمال" أيضًا (21: 19).
[72] "فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (7: 224- الريان).
[73] تهذيب سنن أبي داود؛ لابن قيم الجوزية (1: 299).
[74] صحيح البخاري، باب: الانبساط إلى الناس، وقال ابن مسعود: خالط الناس، ودينك لا تَكْلِمنه، والدعابة مع الأهل، برقم: (6130).
[75] صحيح مسلم، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، برقم: (2440).
[76] أخرجه عبدالله في وجادات المسند في المسند نفسه (6: 281).
[77] أخرجه ابن أبي الدنيا في العيال برقم: (555)، وبرقم: (559).
[78] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9: 176 برقم: 9462).
[79] أخرجه ابن أبي الدنيا في العيال برقم: (556).
[80] أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8: 62).
[81] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8: 174).
[82] أخرجه ابن حبان في صحيحه (13: 174 برقم: 5864).
[83] أخرجه الحميدي في المسند برقم: (232)، وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5: 203 برقم: 3029)، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23: 120)، و أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضًا (23: 26) من طريق الحميدي.
[84] انظر لسان العرب (7: 306 - رهط).
[85] السنن الكبرى للبيهقي (6: 204).
[86] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2: 185).
[87] تاريخ دمشق (69: 10).
[88] انظر "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ أبي الحجَّاج المِزِّيِّ (17: 101).
[89] "سِيَر أعلام النبلاء" (3 :  380)، وانظر لذلك "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي أيضًا (5: 354).
[90] يَعني أنها عَمِيَتْ في آخِر حياتها - رضي الله عنها.
[91] "معرفة الصحابة" لأبي نُعَيم الحافظ (6: 3253 برقم: 3769).
[92] كذا في المطبوع من "معرفة الصحابة"، وعسى أن يكون في أصل أبي نُعيم الحافظ: (إحدى)، وإلا فصوابه (إحدى).
[93] كذا في المطبوع من "معرفة الصحابة"، وهو كذلك في "تهذيب الكمال" في ترجمة أسماء - رضي الله عنها - وفي "طبقات خليفة بن خياطٍ": (عبدالعزى بن عَبد بن أسْعَد)، وفي طبقات ابن سعد: (عبدالعزَّى بن أسْعد)، وتميل نفسْي إلى أنَّ الصَّواب ما في طبقات ابن سعد، والله أعلم.
[94] "السنن الكُبرى" للحافظ البَيهقيِّ (1: 319).
[95] أخرجه الترمذيُّ مُعلَّقًا في باب: ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج، عقب الحديث رقم (1109).
[96] أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2: 527) رواية يحيى.
[97] أخرجه الطَّحاويُّ في "شرْح مُشكل الآثار" ().
[98] أخرجه سعيد بن منصور الخراساني المكيُّ في باب تَزويج الجارِية الصغيرة برقم: (639).
[99] أخرجه ابن أبي شَيبة في "المُصنَّف"، في كتاب النكاح باب ما قالوا في الرجل يُزوِّج الصبيَّة أو يتزوَّجها (4: 345) برقم: 17627.
[100] أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، برقم: (17628).
[101] "التَّمهيد لما في الموطَّأ مِن المعاني والأسانيد" (19: 108).
[102] "صحيح البخاري"، باب: جِوار أبي بكر في عهْد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعَقدُه، برقم: (2175).
[103] "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر العسقلاني (8: 206).
[104] "الإصابة" (4: 27)، وذكر أنه كان غلامًا شابًّا عند الهِجرَة.

الرد على جمال البنا المرتاب وإسلام بحيري الكذاب

الرد على من نفى صحة عمر عائشة - رضي الله عنها -

عندما بنى بها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -

أو

الرد على "جمال البنا" المحتار و"إسلام بحيري" الختار

 


الحمْد لله الذي له مُلك السَّموات والأرض ولم يتَّخذ ولدًا ولم يَكنْ له شَريك في المُلكَ وخلَق كل شيء فقدَّره تَقديرًا، والصَّلاة والسَّلام على مَن بعَثه الله هاديًا ومُبشِّرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.


المُقدِّمة:

كتَب "جَمال البنَّا" [1] مقالاً صحفيًّا بعُنوان:
(صحفيٌّ شابٌّ يُصحِّح للأئمَّة الأعْلام خطأ ألفِ عام! لم يَتزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - السيِّدة عائشة وهي بِنْت تسْع كما يَزعُمون).

وهو يَعرِض ما قام به الشابُّ الصحفيُّ المِصرِيُّ "إسلام بحيري" مِن نقْدٍ ساذج لِحَديث في صَحيح الإمام البُخاريِّ - رحمه الله - ويَزعُم أنَّ المُحدِّثين والفُقهاء وأهل السِّيرة والتاريخ قد تَداوَلوه مُنذ ذلك العهد دون أن يَنتبِهوا لِما فيه مِن خطأ!

وتتَلخَّص دعوى "إسلام بحيري" - حسب ما ذكَره "جمال البنَّا" - في المَباحِث التالية:
ضَعْف الحَديث الذي فيه ذكْرُ بِناء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعائشة - رضي الله عنها - وعُمرها تسْع سنَوات؛ لأنه مِن رِواية أهْل العراق عن هِشام بن عُرْوة، وهي - في زعْمِه - رِوايَة ضَعيفة، اعتمَد في تَضعيفِها على ما ذكَره ابن خِراش في رِواية هِشام بن عُرْوة بالعِراق، وأيَّد الباحِث دعْواه في إبطال الحَديث بما أجمعَتْ عليه كُتب السِّيرة والتاريخ - حَسب فهمِه السَّقيم - بمُقارَنة عُمرِ أسماء - رضي الله عنها - وتاريخ ولادَتِها، وفرْق السِّنين المذكور بينها وبين أُختِها عائِشة - رضي الله عنهما.

زعَم "إسلام بحيري" أنه نَشِط لهذا العمل؛ انطِلاقًا مِن غِيرته على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذْ كيف يَتزوَّج - صلوات ربي وسَلامُه عليه - وهو في الثَّالِثة والخمْسين مِن طِفلَة صَغيرة في التاسِعة مِن عُمرِها؟

استَشهَد لصَنيعِه بما أَخرَجه البُخاريُّ في الصَّحيح مِن حديث عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "لم أَعقِل أبويَّ إلا وهُما يَدينان الدِّين، ولم يَمرَّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - طرفَي النهار بُكرةً وعشيَّة، ثمَّ بدا لأبي بكر فابتَنى مَسجِدًا بفناء داره، فكان يُصلِّي فيه ويقرأ القُرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يَعجبُون منه ويَنظُرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلاً بكَّاءً لا يَملِك عينَيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشْرافَ قُرَيش مِن المُشركين".

زعَم "جَمال البنَّا" أنَّ عُلماء الأمَّة مِن المُحدِّثين والمُفسِّرين والفقهاء وأهل السِّيَر والتاريخ - لم يَنتبِهوا لهذا الخطأ، حتَّى نهَض هذا الشابُّ الصحفيُّ لتَجلِيَته وبيانه بعد مئات السِّنين، مع إنه لم يكن مِن أصحاب العَمائم، ولا درَس في الأزهر الشَّريف.

ولا شكَّ أنها دعْوى هَزيلة لا تقوم على ساق، وهي بِضاعة لا تَنْفُق إلا في سوق الجهَلة والفُسَّاق، وهي ليستْ بجَديدة؛ فقد ادَّعاها مِن قبْلُ جَماعةٌ مِن أهْل الفِرَق الضالَّة، وتبنَّاها عنهم جمهورُ المُستشرِقين، ثمَّ حمَلها عنهم لفيفٌ مِن المُتعالِمين، ولولا أنها تُشوِّش على المُبتدِئين، وتُشكِّك في وثاقَة نُصوص السنَّة الصَّحيحة، وتَقدَح في مَناهِج عُلماء الأمَّة على اختِلاف تَخصُّصاتهم، وهم الذين دأَبوا على حمْل راية العلْمِ بكلِّ قوَّة، فشادُوه على قواعدَ مَتينةٍ، ورعَوه بمناهِجَ رَصينةٍ، وتَوارَثوا حِراسَةَ هذا الدِّين، جيلاً بعد جيل، فذادوا عنه تَحريف الغالِين، وانتِحال المُبطِلين، وتأويل الجاهِلين، فلولا كلُّ هذا، لما نهضَتْ لي همَّة للردِّ على هذه التُّرَّهات، ولكان شأني معها كمَن قال:
لَوْ كُلُّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا
لَأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بِدِينَارِ

وقد بَنَيتُ عمَلي هذا على التَّقسيم التالي:
المبحث الأوَّل (تَمهيد):
ويَلزم لِتَفنيد هذا القدْح أن نَقِف على مَكانة هِشام بن عُرْوة بين المُحدِّثين، ونَقِف على مَكانة البُخاريِّ في العالَمين، ثمَّ نَقف على مكانة ابن خِراش بين أهْل الجرْح والتَّعديل، ونَكشِف عن مَكرِه وكَيدِه، ثمَّ نَقف أخيرًا على أماكن الحَديث المَقدوح في صحَّتِه في كُتب الحَديث ومَراكِز العلْم، وذلك في ثلاثة مَطالب:
المطلَب الأول: ترجمة هِشام بن عُرْوة.
المطلب الثاني: ترجَمة الإمام البُخاريِّ.
المطلب الثالث: ترجمة ابن خِراش.

المبحث الثاني: (تفنيد القدْح بتَخريج الحَديث بطُرُقه المُتعدِّدة، وألفاظه):
وفيه سبْعة مَطالِب، ستَرِد تِباعًا فيه، ويتبيَّن بها أنَّ الحَديث صحيح، لم يُعرَف في العِراق فقط؛ فقد رَواه أهل المدينة المنورة، ومكَّة المكرمة، وحمَله عُلماءُ مِصر مِن الحِجاز، ولم يُضعِّفْه أحدٌ مِن رُواة الحَديث.


المبحَث الثالث: نقْد منهَج النَّقْد الذي انتهَجه الناقِد:
وفيه خمْسَة مَطالِب تَرِد تباعًا فيه، وبها تُفَنَّد دعوى المتطفِّل المُتمثِّلة في لُجوئه إلى الحِساب، والتاريخ، وتَعارُض الأحاديث.
ثم خاتمة البحث.

وأسأل الله أن يتقبَّل هذا العمل، وأن يَجعَله مِن أدوات الحِراسة، ويُعين به في التيقُّظ والانتِباه لأصحاب الشبهات، ويجعَلنا مِن حمَلة هذه الأدوات؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

المبحث الأول: (تراجِم هِشام بن عُرْوة، والبُخاريِّ، وابن خِراش)

المطلب الأوَّل: تَرجَمة هِشام بن عُرْوة:
هو: هِشام بن عُرْوة بن الزُّبير بن العوَّام القُرَشيُّ الأسَديُّ، أبو المُنذِر، وقيل: أبو عبدالله المدنيُّ، وُلد في نحو سنَة إحْدى وستِّين مِن هجْرة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي السنَة التي قُتل فيها الحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما.

اشتُهر أنه تزوَّج بنت عمِّه فاطمةَ بنت المُنذِر، وهي أكبر منه بثلاثَ عشرةَ سنة، وهو مُعارِض لما ذُكِرَ عنه أنه تزوَّجها وعُمرها تسْع سِنين، ذكَرَ هذا الاختِلافَ الحافِظُ الذهبيُّ في ميزان الاعتِدال، وصحَّح القَول الأوَّل[2].

بلَغ هِشام في تحرِّي الصِّدق الغايةَ القُصوى؛ فقد رُوي أنَّ أمير المؤمنين أبا جعْفر المنصور قال لهِشام بن عُرْوة - حين دخَل عليه -: يا أبا المُنذِر، تذكُر يوم دخلْتُ عليك أنا وإخوَتي الخَلائف، وأنت تَشرَب سويقًا بقصَبة يَراع، فلمَّا خرجْنا مِن عِندكَ قال لنا أبونا: اعْرِفوا لهذا الشَّيخ حقَّه؛ فإنه لا يَزال في قومِكم بقيَّة ما بَقِي؟

قال: لا أَذكُر ذلك يا أمير المؤمِنين!
فلمَّا خرَج هِشام، قيل له: يُذكِّرك أمير المؤمنين ما تَمُتُّ به إليه، فتقول: لا أذكره؟!

فقال: لم أكنْ أَذكُر ذلك، ولم يُعوِّدْني الله في الصِّدق إلا خيرًا.
ويُفهَم مِن سياق النصِّ الذي اعتمد عليه "إسلام بحيري" مِن كلام ابن خِراش أنَّ الإمام مالك لم يرْضَ هِشام بن عُرْوة على الإطْلاق، وهذا كلامٌ غير صَحيح؛ إذْ ذكَر الحافِظ ابن حجَر أنَّ الإمام مالكًا قال في هشام نحو ذلك وأكثَر منه، ولكنْ بتتبُّع الرِّوايات، نَجِد رواية الإمام مالك عن هِشام في "موطَّأ الإمام مالك" وحدَه، قد وردَتْ في أكثر مِن مائة وعشرين مَوضِعًا، وجاءتْ أحاديث مالك عن هِشام في الصَّحيحَين، وفي "سُنن أبي داود"، وفي "جامع الترمذيِّ"، وفي "سُنن النسائي"، وله في ابن ماجَه أحاديثُ مِن غير طَريق الإمام مالِك[3]، بل إنَّ أحاديثه التي رَواها عنه غير الإمام مالِك مِن الأئمَّة والحفَّاظ قد وردَتْ في كلِّ دَواوين السنَّة المُعتبَرة، وهذا يدلُّ على أنَّ مَقصِد الإمام مالك مِن الإنكار هو كَراهيتُه للتوسُّع في الرواية، وهو منهَج عُرف به الإمام مالك نفْسُه - رَحمه الله - إذْ دأب على تَقليصِ "الموطَّأ" شيئًا فشيئًا، حتَّى وصلَنا في النهاية على النحو الذي قد لا يُمثِّل مِن أصلِه إلا القَليل، ولهِشام في هذا القليل نصيبٌ وافِر، حتَّى إنه يأتي في المرتَبة الثالِثة بعد الإمامَين الزُّهريِّ، ونافع.

ذكَر الحافِظ الذهبيُّ هِشامًا في ميزان الاعتِدال، وذبَّ عنه، وذكََر أنَّ حديثه مَرويٌّ في الكُتب الستَّة، وقال: هِشام بن عُرْوة، أحد الأعلام، حُجَّة إمام، لكنْ في الكِبَر تَناقَص حفْظُه، ولم يَختلِط أبدًا، ولا عبرةَ بما قاله أبو الحسَن بن القطَّان؛ مِن أنه وسُهيل بن أبي صالح اختلَطا وتغيَّرا، نعم؛ الرجل تغيَّر قليلاً، ولم يَبقَ حفْظُه كَهُوَ في حال الشَّبيبة، فنَسِيَ بعض مَحفوظِه، أو وَهِم، فكان ماذا؟! أهو مَعصوم مِن النِّسيان؟! ولما قَدِم العِراق في آخِر عُمرِه حدَّث بجُملة كثيرة مِن العلْم، في غُضون ذلك يسير أحاديث لم يُجوِّدْها، ومثْل هذا يَقع لمالِك، ولشُعبة، ولِوَكيع، ولِكِبار الثِّقات، فدعْ عنكَ الخبْط، وذَرْ خلْط الأئمَّة الأثبات بالضُّعفاء والمُخلِّطين، فهِشام شيخُ الإسلام، ولكنْ أحسَن الله عزاءنا فيكَ يا بْن القطَّان! وكذا قول عبدالرحمن بن خِراش: كان مالِك لا يَرضاه؛ نَقِمَ عليه حديثه لأهْل العِراق، قَدِمَ الكُوفة ثلاث مرَّات: قدمة: كان يقول: حدَّثني أبي، قال: سمعتُ عائشة، والثانية: فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقَدِم الثالثة فكان يقول: أبي، عن عائشة، يَعني: يُرسل عن أبيه! توفِّي سنة ستٍّ، وقيل: سبع وأربعين، عن نحو سبْع وثمانينَ سنة[4].

المطلب الثاني: تَرجمَة الإمام البُخاريِّ:
هو محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة أبو عبدالله الجُعْفي حِلْفًا، البُخاريُّ موطِنًا، ولد يوم الجُمعة عَقِب صلاة الجُمعة في الرابع عشَر مِن شوَّال، عام أربعة وتِسعين ومائة مِن الهجْرة، وتُوفِّي بعْد مَغيب آخِر يوم مِن رمضان، سنة ستٍّ وخَمسين ومائتَين، وَوُورِيَ الثَّرى في يوم الفطْر - رضي الله عنه وأرضاه.

وممَّا يُفرَح به أن تَجِد عِبارةً في مدْحِه نُسبتْ إلى الحافظ يَحيى بن مُحمَّد بن صاعد[5]؛ فقد كان إذا ذكَر البُخاريَّ، قال: (الكبْش النطَّاح)[6]، وقد تُستغرَب هذه العِبارة؛ لأمرَين: الأوَّل أنَّ الإمام البُخاريَّ كان مُرهَف الذَّوق جدًّا، ويَعرِف ذلك مَن يتابع عبارته في نقد الرجال، فيرى كلمة مُعبِّرةً دقيقةً لا تَطاوُل فيها، ولا تَجبُّر، يَذوق فيها حَلاوة الخشْيَة مِن الله، ويَلمس فيها دقيق الورع، وهي مع ذلك بالِغة في التعبير عن الجرْح أو الحطِّ مِن العَدالة، وما قال الحافظ ابن صاعد هذه العبارةَ إلا لأنه أدرك أنَّ البُخاريَّ "كبش نطاح" بحقٍّ، وقوَّة نطْحه في الصُّعوبة التي يجدها مَن يَتعرَّض لنقْدِه، أو تَمحيصِه.

وإنْ يَعجب الناظِر في كل ذلك، فلنْ يَنقضِيَ عجبه مِن حدَّة الذكاء وجَودة الذهْن من إمام لم تَشغلْهُ زوجة ولا ولد عن خِدمة حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كان آيةً في الحفْظ، حتَّى إنهم اختَبروه اختبارًا في مكْر شديد، فأظهَر براعةً لا يَكاد يُشارِكه فيها بَشر؛ ذلك أنه قَدِم بغداد، فسَمِع به أصحاب الحديث، فاجتمَعوا، وعَمَدوا إلى مائة حديث، فقَلَبوا مُتونها وأسانيدها، وجعَلوا متْن هذا الإسناد لإسناد آخَر، وإسناد هذا المتن لمتْن آخَر، ودفَعوا إلى عَشرة أنْفُس؛ إلى كلِّ رجل عَشرة أحاديث، وأَمُروهم إذا حضَروا المجلس يُلقون ذلك على البُخاريِّ، وأخَذوا المَوعِد للمَجلِس، فحضَر المَجلِس جَماعة أصحاب الحَديث؛ مِن الغُرباء مِن أهل خُراسان، وغَيرها، ومِن البَغداديِّين، فلمَّا اطمأنَّ المَجلِس بأهلِه، انتدب إليه رجل مِن العَشرة، فسأله عن حديثٍ مِن تلك الأحاديث، فقال البُخاري: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أعرفه، فما زال يُلقي عليه واحدًا بعد واحد، حتَّى فرَغ مِن عَشَرته، والبُخاريُّ يقول: لا أَعرِفه! فكان الفُقهاء ممَّن حضَر المَجلِس يَلتفِتُ بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فَهِم، ومَن كان منهم غير ذلك يَقضي على البُخاريِّ بالعجْز والتقصير وقلَّة الفهْم، ثم انتدب رجل آخَر مِن العَشرة، فسأله عن حَديثٍ مِن تلك الأحاديث المَقلوبة، فقال البُخاريُّ: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أَعرِفه، فسأله عن آخَر، فقال: لا أَعرِفه، فلمْ يَزلْ يُلقي عليه واحدًا بعْد آخَر، حتَّى فرَغ مِن عشرته، والبُخاريُّ يقول: لا أَعرِفه، ثمَّ انتدب له الثالث، والرَّابع، إلى تَمام العَشرة، حتَّى فرَغوا كلهم مِن الأحاديث المقلوبة، والبُخاريُّ لا يَزيدُهم على: لا أَعرِفه، فلمَّا عَلِم البُخاريُّ أنهم قد فرَغوا، الْتفَت إلى الأول منهم، فقال: أما حَديثُك الأوَّل، فهو كذا، وحديثُك الثاني، فهو كذا، والثالث، والرابع، على الوَلاء؛ حتَّى أتى على تمام العَشرة، فردَّ كل متْن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متْنِه، وفعَل بالآخَرين مثْل ذلك، وردَّ مُتون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى مُتونها، فأقرَّ له الناس بالحفْظ، وأذعَنُوا له بالفضْل.

وممَّا يُدهَش له كذلك جَودة التَّرتيب والتبويب، التي كشَف عنها الحافظ ابن حجر في مُقدِّمة "فتْح الباري" المسماة: "هدْي السَّاري"[7]، وقد كتَب في توضيحها في ثَنايا "الفتح" كله، ولا بدَّ للذي يتقدَّم لنقْد حَديث فيه أن يَعرِف مَنهجَه، ويَعرِف قَواعِد التَّحديث، وعُلوم الحَديث، فإنْ حاز كل ذلك ووصل لأنْ يَكون في قامَة الحافِظ أبي الحسَن الدارقُطنيِّ[8]، أو في قامة الحافِظ أبي الفضْل بن حجَر العسقلاني[9]، جاز له أن يَعرِف متى تَكون العلَّة قادِحةً، ومتى تَكون غير قادِحة!


المطلب الثالث: ترجمة ابن خِراش الذي غمَز هِشام بن عُرْوة:
لقد استَشهَد المدَّعي لإقامة دعْواه الهَزيلة في تَضعيف الحَديث بما أشار إليه الحافِظ ابن حجَر العسْقلاني في مُقدِّمة "الفتح"[10]، وما نقَله في تهذيب التَّهذيب في ترجَمة هِشام[11] عن ابن خِراش، أنه قال في هِشام بن عُرْوة: كان مالِك لا يَرضاه، وكان هِشام صدوقًا تَدخُل أخباره في الصَّحيح، بلَغني أنَّ مالِكًا نَقِمَ عليه حَديثه لأهْل العِراق، قَدِم الكوفة ثلاث مرَّات: قدمة: كان يَقول: حدَّثني أبي، قال: سمعتُ عائشة، وقَدِم الثانية: فكان يقول: أخبَرني أبي، عن عائشة، وقَدِم الثالِثة: فكان يَقول: أبي، عن عائشة...اهـ.

ومذهب ابن خِراش في دعْواه هذه يَنطوي على مكْرٍ عَظيم، وكَيدٍ لئيم، لا يَعرِفه إلا مَن سبَر منهَج الذين يَدسُّون السمَّ في الفالوذج، فتأمَّل قوله: (كان مالِك لا يَرضاه، وكان هِشام صَدوقًا تَدخُل أخباره في الصَّحيح)، فقد جمَع بين الحَلاوة والطعْن القاتل، ومثْل هذا المكْر قد فعَله رجال يَنتمون إلى الإسلام، فاستغلَّ هذا الكَيد المُستشرِقون فيما بعْد، فهِشام بن عُرْوة يُمثِّل أحَد الطُّرُق الهامَّة لعائشة - رضي الله عنها - وبالتالي فهو أحَد الطُّرق الهامَّةإلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا صحَّ الطعْن فيه، سَهُل الطَّعْن في أخبار الصِّديقة - رضي الله عنها - وهو أيضًا أحد أهمِّ الطُّرق إلى آل الصِّديق - رضي الله عنهم - فالقدْحُ فيه بهذه الطَّريقة الماكِرة، ومُحاوَلة إِحراق روايتِه بنار هادِئة - مَطلبٌ تتحقَّق مِن ورائه مَقاصِد الذين في قُلوبهم إِحَنٌ على الصِّدِّيقة، وعلى أبيها وآلِه - رضي الله عنهم - فالواقِفُ على تَرجمة ابن خِراش يَشَمُّ - ولو كان مَزكومًا - رائِحة الحقْد على الشَّيخَين أبي بكْر الصِّدِّيق وعُمر الفاروق - رضي الله عنهما - فابن خِراش هو: عبدالرحمَن بن يُوسُف بن خِراش، وقد ترجَمه الحافِظ الذهبيُّ في "ميزان الاعتدال"، فقال: عبدالرحمَن بن يوسُف بن خِراش الحافِظ، قال عَبدان: كان يوصل المَراسيل[12]، وقال ابن عديٍّ: كان يَتشيَّع، وقال أبو زُرعة: محمَّد بن يوسُف الحافِظ كان خرَّج مثالب الشَّيخَين، وكان رافضيًّا[13]، وقال عَبدان: قلتُ لابن خِراش: حديث: ((لا نُورَث؛ ما تركْنا صَدقةٌ؟)) قال: باطل[14]، قلتُ: مَن تتَّهِم به؟ قال: مالِك بن أوس.

قلتُ[15]: لعلَّ هذا بدا منه وهو شابٌّ؛ فإني رَأيتُه ذكَر مالك بن أوس بن الحدَثان في تاريخِه، فقال: ثِقَة!

قال عَبدان: وحمل ابن خِراش إلى بُندار[16] عِندنا جُزأَين صنَّفهما في مَثالِب الشيخَين، فأجازه بألفَي درْهم.

قلت[17]: هذا والله هو الشَّيخ المُعَثَّر، الذي ضلَّ سعْيُه، فإنه كان حافِظ زمانه، وله الرِّحلة الواسِعة، والاطِّلاع الكَثير، والإحاطة، وبعد هذا فما انتَفع بعلْمِه، فلا عتب على حَمير الرافضة وحواتر جزين ومَشْغَرا[18].

وقد سَمِع ابن خِراش مِن الفلاس وأقرانه بالعِراق، ومِن عبدالله بن عمران العابدي وطبَقته بالمدينة، ومن الذهلي وبابته بخراسان، ومِن أبي التقى اليزني بالشام، ومِن يُونُس بن عبدالأعلى وأقرانه بمصْر، وعنه ابن عقدة، وأبو سهْل القطَّان، وقال أبو بكر بن حمدان المَروزيُّ: سَمعتُ ابن خِراش يقول: شربْتُ بَولي في هذا الشأن خمْس مرَّات، وقال ابن عدي: سمعتُ أبا نُعيم عبدالملك بن محمَّد يقول: ما رأيت أحفََظ مِن ابن خِراش؛ لا يُذكَر له شيء مِن الشُّيوخ والأبواب إلا مرَّ فيه، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين، انتهى[19].

وقال الحافظ ابن حجَر في "لسان الميزان"[20]: وقال ابن عديٍّ: إنما ذُكر بشيء مِن التشيُّع، فأمَّا في الحَديث، فإني أرجو أنه لا يَتعمَّد الكَذِب.

وبقيَّة قصَّة جُزئَي المَثالب: فأجازه بألفَي درْهم، فبنا بها حجرة ببغداد لِيُحدِّث فيها، فما مُتِّع بذلك ومات حين فرغَتْ.

وقال الخَطيب:
كان أحد الرحَّالين في الحديث إلى الأمْصار، وممَّن يُوصَف بالحفْظ والمَعرِفة، وقال ابن المُنادي: كان مِن المَعدودين المذْكورين بالحفْظ والفهْم للحَديث والرِّجال، توفِّي لخمْس خلَونَ مِن شهْر رمضان؛ اهـ.

ولا شكَّ أنَّ رائحة المذْهبيَّة البَغيضة، قد فاحتْ مِن كَلام ابن خِراش، وهو الذي لم يَنفعْه التكسُّب الرَّخيص؛ بل مات بعْد أن اكتمَل البِناء الذي بَناه مِن جائزته على مَثالِب أبي بكر وعُمر - رضي الله عنهما - ولم يَهنأْ بما بَناه، ونسأل الله أنْ يَجزِيَه في آخِرته وفاقًا لِما فعَل.

وقد دأَب الشِّيعة - والرَّافِضة منهم على وجْه الخُصوص - على الطَّعْن في مناهِج أهْل السنَّة، ومِن أهمِّ الجِبال الثابتة التي دأَبوا على ضربِها بفؤوس مِن وَرَق صحيحُ البُخاريِّ - رضي الله عنه - ولكنْ يأبى الله إلا أنْ يَظلَّ هذا الصَّحيح صامِدًا لا يتأثَّر بضرَباتِ أقْوى المَعاوِل، وتظلُّ مَناهِج المُحدِّثين هي الحارِسَ الأمين لهذا الدِّين مِن التَّحريف، وإنَّ أجلَب عليها الحاقِدون مِن الشِّيعة والمُستَشرِقين وأذْنابِهم بخَيلِهم ورجِلِهم.

المبحث الثاني: تخريج الحديث بطُرُقِه المُتعدِّدة، وألفاظِه:
المطلب الأول: تَخريج الحَديث مِن روايَة البُخاريِّ:
هذا الحَديث أخرَجه أمير المؤمِنين في الحَديث: الإمام البُخاريُّ مِن طُرُق عدَّة، منها الوجْه الذي ذكَره المُتهوِّر "إسلام بحيري"، وهو طريق علي بن مُسْهِر[21]، عن هِشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تزوَّجَني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنْتُ ستِّ سنين، فقَدِمْنا المدينة فنزلْنا في بني الحارِث بن خزْرَج، فَوُعِكْتُ فتَمرَّق شَعري، فَوفَى جُمَيْمَةً، فأتتْني أمِّي أمُّ رومان وإنِّي لَفِي أُرجُوحة، ومعي صَواحِب لي، فصرَخَتْ بي، فأتَيتُها لا أدري ما تُريد بي، فأخذَتْ بيَدِي، حتَّى أوقفَتْني على باب الدار، وإني لأُنْهَج حتَّى سكَن بعْض نفَسي، ثمَّ أخذتُ شيئًا مِن ماءٍ فمسَحتْ به وجْهي ورأسي، ثم أدخلَتْني الدَّار، فإذا نِسوَة مِن الأنصار في البيت، فقُلْنَ: على الخَير والبرَكة، وعلى خير طائر، فأسلمَتْني إلَيهِنَّ، فأصلَحْنَ مِن شأني، فلم يَرُعْنِي إلا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضُحى، فأسلمَتْني إليه وأنا يومئذٍ بنتُ تسْع سِنين".

والثاني: مِن طَريق أبي أسامة حمَّاد بن أسامة[22]، عن هشام، عن أبيه، قال: تُوفِّيَتْ خديجة قبْل مَخرَج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة بثلاث سنين، فلَبِثَ سنتَين أو قريبًا مِن ذلك، ونكَح عائِشة وهي بنتُ ستِّ سِنين، ثمَّ بنَى بها وهي بنتُ تسْع سِنين.

والثالث: مِن طَريق وُهَيب بن خالد[23]، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّجَها وهي بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنتُ تسْعِ سِنين، قال هِشام: وأُنبئتُ أنها كانتْ عِندَه تِسعَ سِنين.

والرَّابِع: مِن طَريق سُفيانَ الثَّوريِّ، عن هِشام بن عُرْوة، عن عُروة، تزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وهي بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنت تِسعٍ، ومكثَتْ عِنده تِسعًا، وقد روى البخاري هذا الحَديث عن شَيخَين، أحدهما محمَّد بن يوسُف الفِرْيابيُّ[24]، والآخَر قَبيصَة بن عُقبة[25].

ووافَق مُسلمٌ البُخاريَّ فأخرَجه مِن طريق أبي أسامة[26]، عن هِشام، عن أبيه عُروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لستِّ سِنينَ، وبنَى بي وأنا بنتُ تسْعِ سِنين، قالتْ: فقَدِمْنا المَدينة فوُعكْتُ شَهرًا، فوفَى شَعري جُمَيمة، فأتتْني أمُّ رومان وأنا على أُرجوحَة، ومَعي صَواحِبي، فصرَختْ بي، فأتَيتُها وما أدْري ما تُريد بي، فأخذَتْ بيَدِي، فأوقَفتْني على الباب، فقلتُ: هَهْ هَهْ، حتَّى ذهَب نفَسي، فأدخلَتْني بيتًا فإذا نِسوة مِن الأنصار، فقُلْنَ: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمَتْني إليهنَّ، فغسَلْنَ رأسي وأصلَحْنَني، فلمْ يَرُعْنِي إلا ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضُحًى، فأسلَمْنَني إليه".

ومِن طَريق أبي أسامة المُتقدِّم أخرَجه ابن حبَّان في الصَّحيح، وأبو نُعيم في المُستخرَج على صَحيح مُسلم[27].

ثمَّ أخرَجه مُسلِم في الباب نفْسِه مِن طَريق أبي مُعاويَة[28]، ومِن طريق عَبْدَة بن سُلَيمان[29]؛ كلاهما عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالتْ: "تزوَّجَني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنتُ ستِّ سِنين، وبنَى بي وأنا بنتُ تِسعِ سِنين".

وكلُّ الأوجُه المُتقدِّمة مِن رِوايَة أهْل العِراق لهذا الحَديث، عن هِشام بن عُرْوة، وقد استَفاض الحَديث بالعِراق.

المَطلب الثَّاني: استِفاضَة الحَديث بالعِراق:
وقد استَفاض الحَديث بالعِراق؛ فرَواه عن هِشام أئمَّة مِن جَهابِذة صَيارِفة الحَديث ونُقَّاده العارِفين:
ومِن هؤلاء حمَّاد بن زيد؛ وروايتُه أخرَجها ابن سعْدٍ، وأبو داود، وأبو عوانة الإسفرائينيُّ، وأبو نُعيم الأصبَهاني[30]؛ بذاتِ السنَد، بنحْوِه.

ومنهم حمَّاد بن سلَمة، وروايته أخرَجَها أبو داود الطَّيالِسيُّ في المُسنَد، والإمام أحمد في المُسنَد، وابن سعْد، وأبو داود السِّجِسْتانيُّ في السُّنَن، وابن عَبدالبرِّ في التَّمهيد[31]، جميعُهم بذاتِ السنَد، بنحْوِه.

ومنهم جَرير بن عَبدالحَميد، وروايتُه أخرَجها ابن أبي داود في مُسنَد عائِشة، وابن عبدالبرِّ في التَّمهيد في المَوضِع السابِق[32]، بذات السنَد، بنحْوِه.

ومنهم وكيع بن الجرَّاح، وروايتُه أخرَجها ابن سعْدٍ، وإسحاق بن راهوَيْهِ، وهَنَّاد في الزُّهْد[33]؛ بذاتِ السَّنَد.

ومنهم يَحيى بن زكريَّا بن أبي زائِدة، وروايتُه أخرَجها أبو عوانة الإسفرائينيُّ[34]بذات السنَد، بنحْو رِوايَة عليِّ بن مُسْهِر عِند البُخاريِّ، وهي ستُّ سنين عِند عُقدَة النِّكاح.

ومنهم جَعْفَر بن سُليمان الضُّبَعيُّ، وروايتُه أخرَجها ابن سعْد[35]، وأبو عوانة الإسفرائينيُّ[36]بذات السنَد، بنحْوِه.
ومنهم يونُس بن بُكَير، ورِوايته أخرَجها البَيهقيُّ[37]، بذات السنَد، بنحْوِه.
ومنهم إسماعيل بن زكريَّا، ورِوايَتُه أخرَجها سَعيد بن منصور[38]، بذات السنَد، بنحْوِه.
وبحُكْم استِفاضَة هذا الحَديثِ؛ فقد طَمِعَ فيه الضُّعَفاء والسَّارِقون، ومنهم يَحيى بن هِشام، وهو مِن المَعروفين بسَرِقَة الحَديث، ورِوايَته أخرَجها الحافظ أبو نُعَيم الأصْبَهانيُّ[39] بذات السنَد، بنحْوِه.

فأهْل الحَديث لَيسُوا بأولئك الأغرار، وإنما هُمْ حُرَّاس دينٍ، يَنفُون عنه عبَث الجاهِلين، وكَذِبَ الدجَّالِين، فيَحيى بن هِشام لو انفرَد بحَديث، ولم يُتابِعْه عليه أحَد، فالنَّار أولى بقِرْطاسِه مِن النَّشْر، ولكنَّه أيقَن أنَّ هذا الحديث قد فاضتْ به الدَّواوين، وكُسرتْ عليه العَراجين، فلمْ يَملِك إلا أنْ كتبَه مع الحفَظة والورَّاقين، وهو الذي ذكَره ابن أبي حاتم في الجرْح والتَّعديل[40]، فقال: يَحيى بن هَاشِم السِّمْسار الغسَّاني؛ سكَن بغْداد، وهو ابن هاشِم بن كَثير، روى عن الأعمَش، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن أبي لَيلَى، ويونُس بن أبي إسحاق، وهِشام بن عُرْوة.

روى عنه يَزيد بن هارون، وسَمِع منه أبي ولم يُحدِّثْني عنه، وقال: كان يَكذِب، وكان لا يُصدِّق، تُرك حديثُه.اهـ.

ويَحيى وبابَتُه لو عوَّل على روايتِه حاقِد، لانكشَف أمْرُه، وأنَّى لذلك الجَهول أن يَعلم هذه القوة والشدَّة في تَعاهُد سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

المطلب الثالث: رواية غير العِراقيِّين لهذا الحَديث عن هِشام:
إنَّ القَول بأنَّ الحَديث لم يَرِدْ في صَحيح البخاري عن هِشام بن عُرْوة إلا مِن رواية العِراقيِّين، قولُ حقٍّ أريد به باطِل، وهو تَضعيف الحَديث وإسقاطه، وبالتالي إسْقاط الصَّحيح، بل إسقاط مَناهِج المُحدِّثين بأكمَلِها؛ فالحَديث انتَقاه الإمام البُخاريُّ بالفعْل مِن رِوايَة العِراقيِّين.

ولكنْ هذه دعْوى ماحِقة؛ فالحَديث رواه الإمام الشافعيُّ في مُسنَده[41]، عن سُفيان بن عُيَينة، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: "تزوَّجني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا بنتُ سبْع سِنين، وبنَى بي وأنا بنتُ تسْع سِنين"، وهو كذلك في كتاب "اختِلاف الحَديث" للإمام الشافعي[42] بنفْس السنَد واللفْظ.

وأخرَجه الحُمَيدي في مسنده[43]، والآجُرِّيُّ في الشَّريعة[44] مِن طَريق محمَّد بن يَحيى بن أبي عُمر، كِلاهما (الحُمَيدي، وابن أبي عُمر)؛ عن سُفيان بن عُيَينة، عن هِشام، به.

ونقل الحُمَيدي عن سُفيان أنه قال بعد قوله: عن هِشام: "وكان مِن جيِّد ما يَرويه".

ومِن طَريق الحُمَيدي أخرجه الطبَرانيُّ في المُعجَم الكَبير[45].
وعلى هذا؛ فالحَديث قد خرَج مِن المَدينَة المُنوَّرة إلى مكَّة المُكرَّمة، وقد رواه سُفيان بن عُيَينَة، وهو مِن جلَّة أهْل الحِجاز مِن مكَّة المُكرَّمة، وهو مِن أقْران الإمام مالك، وقد ساواه الإمام الشافعيُّ بالإمام مالك، فقال: "لولا مالك وسُفيان، لضاعَ عِلْم الحِجاز"؛ اهـ، وقد رواه عنه الإمام الشافعيُّ، وأبو بكْر الحُمَيديُّ المكِّيُّ، وابن أبي عُمر العدَني نَزيل مكَّة، وهمْ مَن هُم في أئمَّة أهْل الحِجاز، ولا بدَّ مِن وقْفة عِند قول سُفيان بن عُيَينة: "وكان مِن جيِّد ما يَرويه".

أما زعْمُه بأنَّ الحَديث لم يَروِه أحدٌ مِن المدَنِيِّين عن هِشام، فهو قَولٌ كَذِبٌ محْضٌ، فقد رواه مِن المَدنيِّين عبدُالرحمَن بن أبي الزِّناد، وهو مِن أثبَتِ الناس في هِشام بن عُرْوة فيما قال أبو داود عن يَحيى بن مَعين[46]، وروايتُه أخرَجها الإمام أحمد[47]، عن سُلَيمان بن داود[48]، وأخرَجها الطبَرانيُّ في المُعجم الكَبير[49]، من طريق سَعيد بن أبي مرْيَم، وأخرَجها الطبرانيُّ في المُعجَم الأَوسَط[50]، مِن طَريق بكْر بن يونُس، وأخرجَها الخَطيب البَغداديُّ في الكِفاية في علْم الرِّواية[51]، مِن طَريق عبدالله بن وهْب، جَميعهم عن عبدالرَّحمن بن أبي الزِّناد، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ابنة ستِّ سنين بمكَّة مُتوفَّى خَديجة، ودخَل بي وأنا ابنة تِسْع سِنين بالمَدينة"؛ واللفْظ للإمام أحمَد.

وكذلك حمَلَه عن هِشام مِن المدنيِّين سَعيد بن عبدالرحمَن بن عبدالله القُرَشي الجُمَحيُّ، ورِوايته أخرَجها الخَطيب البَغداديُّ في المَوضِع السابق مَقرونةً مع رِوايَة ابن أبي الزناد، مِن رواية ابن وهْب عنه.

وبهذا؛ فقد وضَحَ أنَّ العِراقيِّين لم يَتفرَّدوا برِواية هذا الحديث عن هِشام؛ بل هو في المدينة مِن رواية ابن أبي الزناد، وسَعيد بن عبدالرحمن الجُمَحيِّ، وهو في مكَّة المَحروسة مِن رِوايَة سُفيان بن عُيَينة، وقد نص فيما نقَله عنه أبو بكر الحُمَيدي المكيُّ على أنَّ هذا الحديث من جيِّد ما يَرويه هِشام بن عُرْوة.

وقد رواه عبدالله بن وهْبٍ المصري - فيما تقدم نقْلُه عن الخَطيب في الكِفاية - عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد، وعن سعيد بن عبدالرحمن المدنيين، ورواه عن ابن أبي الزناد - أيضًا فيما تقدَّم تخريجه - سعيد بن أبي مريم، وهو سعيد بن الحَكَم المِصريُّ.

وابن وهْب، وابن أبي مريم: مِن أئمَّة المِصريِّين وثِقاتهم الأثْبات، ويَكون الحديث بذلك قد انتَقل إلى مصْر عن طَريق جهْبذَينِ مِن جَهابِذَتِها، ومع ذلك فلم يَعلَمِ المِصريَّان "جمال البنَّا" و"إسلام بحيري" أنَّ هذا الحديثَ انتقل إلى مِصرَ، ونقلَه اثْنان مِن كِبار عُلماء الأمَّة في مصْر!

وليس مِن نافِلة القَول أنْ أُذكِّر بأنَّني قد حاولْتُ أنْ أستفيد مِن الوجْه الرابع في رِوَاية البُخاريِّ لهذا الحديث، والتي ساقها مِن وجهَين عن سُفيان الثوريِّ، أحدهما مِن روايته عن قَبيصَة بن عُقبَة، والآخَر مِن روايته عن محمَّد بن يوسُف الفِرْيابيِّ، مؤمِّلاً في تَعضيد ذلك بالنظَر إلى ظاهِر أماكن نَشأة واستِقرار هؤلاء الأئمَّة، وقد وجدْتُ قَبيصَة بن عُقبَة مِن أهْل الكُوفَة[52]، فلم أُعوِّل على رِوايته في خُروج الحديث عن غير العِراقيِّين، إلا أنَّ محمَّد بن يوسُف الفِرْيابي وجدْتُه مِن قيساريَّة مِن ساحل الشام[53]، فلو جاز الاحتِجاج للرَّأي بالمُماراة، لقلتُ: إنَّ الفِرْيابيَّ ليس مِن أهْل الكُوفة، وإنَّ سُفيان الثوريَّ كانتْ له إقامة معلومة بمكَّة، وهذا يَعضُد القول بأن هذا الحديث مكِّيٌّ أيضًا، بَيْدَ أنَّني وجدْتُ أهل الحديث لم يَترُكوا الأمر على عواهِنه، فإنهم لم يَترُكوا مَجالاً للمُماراة في ذلك، فقد نقَل الحافظ المِزِّيُّ عن حرْب بن إسماعيل، أنه قال: قال أحمد بن حَنبلَ: الفِرْيابيُّ سَمِع مِن سُفيان بالكوفة، وصَحِبه وسَمِع منه، قال أحمد: وكتبتُ أنا عن الفِرْيابيِّ بمكَّة[54].اهـ. وهذا دليل على أنَّ أهل الحديث كانوا في مُنتهى الدقَّة، فهل لجَمال البنَّا ومِن ورائه "إسلام بحيري" أن يَعرِفا هذه اللطائف الإسناديَّة الدقيقة العزيزة؟!

المطلب الرابع: مُتابَعة الرُّواة لهِشام بن عُرْوة:
يَكشِف التَّخريج أنَّ هِشام بن عُرْوة لم يتفرَّد برِواية هذا الحديث عن أبيه عُروة بن الزُّبير، وقد تابَعه الزُّهريُّ، ورِوايته أخرَجها الإمام مسلم[55] في الصَّحيح؛ مِن طريق مَعمَر، عن الزُّهريِّ، عن عُروة، عن عائشة، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّجها وهي بنت سبْع سِنين، وزُفَّت إليه وهي بنتُ تسْع سِنين ولُعَبُها معَها، وماتَ عنها وهي بنتُ ثَمانِ عشْرَة.

والزُّهريُّ هو: محمَّد بن مُسلِم بن شِهاب الزُّهريُّ، شيخ الإمام مالك بن أنَس، وهو مِن كِبار أئمَّة أهْل الحِجاز، وهو عِند مالك في مكان رفيع.

فالحَديث إذًا بدأَ في المَدينة وفيها عُرِف، قبْل أن يَكون عراقيًّا، كما أنَّ عُروة بن الزُّبَير نفْسَه لم يتفرَّد بهذا الحديث عن عائشة، فيما سيأتي بيانُه في المطلب التالي.

المطلب الخامِس: مُتابَعة الرُّواة لعُروةَ بن الزبَير نفْسِه:
وفوق كلِّ ذلك، فلم يتفرَّد عُروة نفسُه برِواية هذا الحديث عن خالَتِه أمِّ المُؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقد رَواه عنها جماعةٌ مِن التابِعين، منهم:
الأسود بن يَزيد، ورِوايته أخرجها الإمام مسلم[56] مِن طريق الأعمَش، عن إبراهيم، عنه، عن عائشة، قالتْ: تزوَّجها[57] رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي بنْتُ ستٍّ، وبنَى بها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنتُ ثمان عشْرة.

ورواهُ عنها أيضًا القاسِم بن محمَّد بن أبي بكْر الصدِّيق، ورِوايَته أخرَجها ابن أبي عاصِم[58]، والطبَرانيُّ في "المُعجم الكبير"[59]، كِلاهما مِن طَريق سعْد بن إبراهيم، عنه، عن عائشة، بنحْوِه.

ورواه عنها عبدالله بن أبي مُلَيكَة، ورِوايته أخرَجها النَّسائيُّ في السُّنن الكُبرى[60]، والطبَرانيُّ في المُعجمَين الكبير[61] والأوسط[62]، مِن طريق الأَجْلَح، عنه، عن عائشة، به.

ورواه عنها أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عَوف، وروايته أخرجها النَّسائيُّ في السُّنن الكُبرى[63]، مِن طريق محمَّد بن إبراهيم، عنه، عن عائشة.

ورواه عنها عبدالملك بن عُمَير، ورِوايَته أخرَجها الطبرانيُّ[64]مِن طَريق أبي عوانة اليَشكُريِّ، عنه، عن عائشة، بسياق آخِر، بمعناه.

ورواه عنها يحيى بن عبدالرحمن بن حاطِب، ورِوايته أخرَجها أبو يَعلى[65]مِن طريق محمَّد بن عمْرو، عنه، عن عائشة.

ورواه عبدالرحمن بن الضحَّاك، وروايته أخرجها الحاكم في المُستدرَك[66]، مِن طَريق إسماعيل بن أبي خالد، أنبَأ عبدُالرحمَن بن الضحَّاك، أنَّ عبدالله بن صفْوان، أتَى عائشة وآخَرُ معه، فقالت عائشة لأحدهما: "أَسَمِعْتَ حديث حَفصة يا فلان؟" قال: نعم يا أمَّ المُؤمِنين، فقال لها عبدالله بن صفْوان: وما ذاك يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: "خِلالٌ لي تِسْعٌ لم تكنْ لأحَدٍ مِن النساء قبلي، إلا ما آتى الله - عزَّ وجلَّ - مريم بنت عِمران، والله ما أقول هذا إني أفخرُ على أحد مِن صَواحِباتي"، فقال لها عبدالله بن صفوان: وما هنَّ يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: "جاء المَلَك بصُورتي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ابنة سبْع سِنين، وأُهدِيتُ إليه وأنا ابنة تسْع سِنين، وتزوَّجَني بكْرًا لم يَكنْ في أحد من الناس، وكان يَأتيه الوحْي وأنا وهو في لِحافٍ واحِد، وكنتُ مِن أحبِّ الناس إليه، ونزَل فيَّ آيات مِن القرآن كادَتِ الأمَّة تهلِك فيه، ورأيتُ جبريل - عليه السلام - ولم يرَه أحد مِن نسائه غيري، وقُبِض في بيتي، لم يَلِهِ أحد غير المَلَك إلا أنا"؛ قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِجاه، ووافَقه الذهبيُّ في التَّلخيص.

ورواه عنها أبو عُبَيدة بن عبدالله بن مسعود، وروايته أخرَجها ابن سعد[67]، والطبَرانيُّ في المُعجم الكبير[68] مِن طَريق سُفيان الثوريِّ، ومِن طَريق شَريكٍ، وأخرَجها النسائيُّ في السُّنن الكُبرى، والطبرانيُّ في المَصدَر السابِق، مِن طريق مُطرِّف بن طَريفٍ، جميعهم - سُفيان، وشَريك، ومُطرِّف - عن أبي إسحاق، عنه، عن عائشة[69].

واختُلف على أبي إسحاق، فأخرجه النسائيُّ في السنن الكُبرى[70] فقال: أخبرنا إسْحاق بن إبراهيم بن راهوَيْه، قال: أنا يَحيى بن آدم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبَيدة، عن أبيه، قال: تزوَّج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وهي بنت ستِّ سِنين، وبنَى بها وهي بنت تسْع.

قال أبو عبدالرحمن النسائيُّ: مُطرِّف بن طَريفٍ الكُوفيُّ أثبَتُ مِن إسرائيل، وحديثُه أشبَه بالصَّواب، والله أعلم؛ اهـ.

المطلَب السادِس: انتِفاء ظهور هذا الحَديث في كتُب العِلَل مُطلقًا:
لمْ يَألُ عُلماء الحديث جهدًا في الذَّود عن سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهُمْ بعدَ أنْ دوَّنُوها وصانوها، قاموا بتَمحيصِها، ونقْد أسانيدها ومُتونها، والإمام البُخاريُّ واحِد مِن أمْهَر النُّقَّاد؛ فقد اتَّخذَ عليَّ بن عبدالله بن جعْفر - المشهور بابن المَدينيِّ - شيخًا له في مَعرِفة علْم العِلَل، وكان عليٌّ - رحمه الله - مُقدَّمًا في مَعرِفة العِلَل، فهضَم أبو عبدالله البُخاريُّ علْمَ ذلك الإمام، فأمكَنه ذلك مِن إخْراج كتابه الجامع الصَّحيح المُسنَد، ولم يَكنْ أبو الحُسَين مُسلم بن الحجَّاج القُشَيريُّ قد هامَ بحبِّ البُخاريِّ لولا أنه أيقَن أنه بحْر لا يُمخَر، فلمَّا لَقِيَه قبَّل بين عَينيه، وقال: دعْني أُقبِّل رجلَيكَ يا أستاذ الأُستاذِين، وسيِّد المُحدِّثين، وطَبيب الحَديث في عِلَلِه[71].اهـ.

وقد خلتْ جميع كُتب العِلَل عن ذكْر علَّةٍ لهذا الحَديث، ولم تُورِد فيه اختِلافًا على هِشام، ولا تَضعيفًا؛ إذ لم يذْكرْه الإمام أحمد في العِلَل إلا في مَعرض التعريف بالرجال، ولم يَذكرْه أبو عيسى الترمذيُّ، ولا الخَلَّال، ولم يَرِد في العِلَل لابن أبي حاتم الرازيِّ، ولا في العِلَل للدارقطنيِّ، ولا في الكامل لابن عديٍّ، ولم يَرِدْ أيُّ تَعليل له في كتاب مَعرِفة السُّنن للحافظ البَيهقيِّ، فكيف يأتي هذا الغرُّ الجاهِل لِيَطعنَ فيه، ولو صحَّ طعْنُه لنَفذَ إلى أحاديث كثيرة رواها هِشام، عن أبيه، وحمَلها عنه أهل العلْم في شتَّى الأمْصار، وهي في صَحيح البُخاريِّ، وغيره مِن دواوين السنَّة المُشرَّفة؟ أم إنَّها شِنْشِنَة مَعروفة مِن قِدَم؟

وعلى هذا؛ فإنَّ القدْح في رِواية هِشام بن عُرْوة بمثْل هذه المزاعم التي لا تَنفُقُ إلا في سوق العوامِّ، ولا تَنطلِي إلا على الجهَلة الطغام، ورَاءه ما وراءه مِن أغراض باعِثُها الإحنُ والأحْقاد.

ويِبقى معِنا أمر يِلزم التنبيهُ إليه، وهو أنَّ جميع هذه الرِّوايات المُتقدِّمة قد اتَّفقتْ على أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد بنى بأمِّ المؤمِنين عائشة - رضي الله عنها - وهي بنت تسْع سِنين، ولم يَختلِف الرُّواة في ذلك، لا في حديث عُروة، ولا في أحاديث مَن تابعوه، ولا أحاديث مَن تابَعوا أباه، ولكن اختَلفتْ رِواياتهم في سنِّها عِند عُقدة النِّكاح، فأغلَبُهم قال: ستُّ سِنين، وبعضهم قال: سبْع سِنين، وبعضهم رواه بالشكِّ بين ستِّ وسبْع سِنين، ويُحمَل كل ذلك على تقدير الشهْر الذي تمَّ فيه العقْد، مُقارنةً بين السنَة التي دخل عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ ذلك كان على التَّقريب في قَول مَن قالوا: سبْع سنين؛ لأنَّ أغلَب الرُّواة قالوا: ست سِنين، وهو أمْر مُحتمَل في مسألة تَقدير العُمر، وقد وضَّح كلَّ ذلك الحافظُ ابن حجَر العسْقلانيُّ في "فتح الباري"[72]، بل إنَّ الواقِف على شرْحه لَيَشعُر بالمَضاضَة لقَول هؤلاء الأوباش بأنَّ المُتقدِّمين قد فاتَهم الانتِباه لهذه المسألة.

وقال شمسُ الدِّين ابن القيِّم في "تهذيب سنن أبي داود"[73]: وليس شيء مِن هذا بمُختَلِف؛ فإنَّ عَقْده عليها كان وقد استَكملَتْ ستَّ سِنين، ودخَلتْ في السابِعة، وبناؤه بها كان لِتسْعِ سِنين مِن مَولدها ... اهـ.


المطلب السابع: شواهد حديثيَّة على صِغَر سنِّ عائشةَ - رضي الله عنها -:
تقدَّم معَنا حديث الزُّهريِّ عن عائشة الذي أخرَجه مسلم في زَواج عائشة، وأنها زُفَّتْ للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولُعَبُها معَها، وهو ليس مِن أحاديث أهْل العِراق عن هِشام، ثمَّ يتأكَّد ذلك بما أخرجه الشَّيخان: البُخاريُّ[74] مِن طريق أبي مُعاويَة، ومُسلم[75]مِن طَريق عبدالعزيز بن محمَّد، كلاهما - أبو معاوية، وعبدالعزيز - عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة؛ أنها كانت تَلعَبُ بالبَنات عِند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: وكانتْ تأتيني صَواحِبي، فكُنَّ يَنقَمِعْن مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُسرِّبهنَّ إليَّ، واللفْظ لِمُسلِم.

وهذا الحَديث أخرَجه عَبدالله بن الإمام أحمد في وجاداتِه في مُسند أبيه[76]، عن عامر بن صالِح، وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا في "العيال"[77]: مِن طريق عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجِشُون، وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا أيضًا مِن طريق جرير بن عبدالحميد، وأخرَجه أبو جعفر بن البخْترِيِّ، مِن طريق هُرَيْم بن سُفيان، وأخرَجه الطبَراني في "المُعجَم الأوسَط"[78]، مِن طَريق جَرير بن حازم، خمستهم - عامر بن صالح، وابن الماجِشُون، وجَرير بن عبدالحَميد، وهُرَيم، وجَرير بن حازِم - عن هِشام بن عُرْوة، به.

وأخرَجه ابن أبي الدُّنيا في "العيال" أيضًا مِن وجْه آخَر[79]، فقال: حدَّثني أبي، وإسحاق بن إسماعيل، حدَّثنا هُشَيم، عن يَحيى بن سَعيد، عن محمَّد بن إبراهيم التَّيميِّ، عن عائشة، قالتْ: دخَل عليَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا ألعَبُ بالبَنات فقال: ((ما هذا؟)) قالتْ: "خَيل سليمان بن داود"، فضَحِك.

وأخرَج ابن سعْدٍ في "الطبَقات الكُبرى"[80]، والخطيب البغدادي[81]؛ كلاهما مِن طَريق عُبيدالله بن عُمر، عن يَزيد بن رومان، عن عُروة، عن عائشة قالت: "كنتُ ألعَبُ بالبنات على عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه و سلَّم -".

وأخرَج ابن حبَّان في "الصَّحيح"[82]: مِن طريق أبي النضر، عن عُروة، عن عائشة، أنها قالت: دخَل عليَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا أَلعَبُ باللُّعَب، فرفَع السِّتْر، وقال: ((ما هذا يا عائشة؟)) فقلت: "لُعبٌ يا رسول الله"، قال: ((ما هذا الذي أرى بينهن؟)) قلتُ: "فرَسٌ يا رسول الله"، قال: ((فرَسٌ مِن رِقاع له جَناح؟!)) قالت: فقلتُ: "ألم يَكنْ لسُلَيمان بن داود خَيل لها أجنِحَة؟" فضَحِكَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وأخرج الحُمَيدي، وابن أبي عاصِم، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير"[83]، مِن طَريق سُفيان بن عُيَينة، قال: ثنا سَعيد بن المَرْزُبان، عن عبدالرَّحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "تزوَّجَني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليَّ حَوْفٌ، فما هو إلا أنْ تزوَّجَني، فألقَى عليَّ الحَياء".

قال سُفيان: والحَوفُ ثيابٌ مِن سُيور تُلبِسُه الأعْرابُ أبناءهم.

وقَولها - رضي الله عنها -: فألقَى عليَّ الحياء؛ أيْ: إنها استَحتْ عن لبْسِه بعد ذلك، وهذا يعني أنها كانت صغيرةً لم تَفقَهْ معنى الحياء؛ إذ لو كانت كبيرةً ولم تكنْ حييةً - وحاشا لأمِّ المؤمِنين أن تكون كذلك - لزُجِرَتْ، وحُمِلَتْ على الحياء حمْلاً، على عادة الناس إلى يومِنا هذا، وكيف لا يُلقَى عليها الحياءُ وقد قضى الله - تبارك وتعالى - أنْ تكونَ زوجًا لرسوله الكريم - صلوات ربي وسَلامه عليه - وأُمًّا للمُؤمنين بنصِّ القُرآن العظيم؟!

ولا شيء أقوى دلالةً على صِغَرِها مِن لبْسِها الحَوف، وهو لباسٌ مِن جلْد مُشقَّقٍ، على هيئة الإزار، يَكاد لا يَستُر أبدًا، تَلبَسُه صِغار السنِّ مِن الفتيات دون سنِّ البُلوغ، ويُسمَّى الرَّهط[84] - بالهاء - وأهْلُنا في السُّودان كانوا يَنطِقونه بالحاء المُهمَلة المَفتوحة بدَلَ الهاء، وكان شِعارًا لنَوع مِن العطْر المَصنوع في السودان يُسمَّى: (بنت السُّودان).


المبحث الثالث: نقْد منهج النقْد الذي انتهَجه الناقد:

المطلب الأول: منهَجُه في حِساب عُمر عائشة عِند البِناء بها:
ذهَب الناقِد إلى أنَّ أسماء تَكبُر عائشة - رضي الله عنهما - بعشْر سَنوات فقط، وأكَّد أنَّ هذه الإفادة قد وردَتْ في كافَّة المَصادِر التاريخيَّة حسَب زعْمِه، دون أن يُعمِل في ذلك منهَج النُّقَّاد، وأنَّى له ذلك؟ فهو كخائض في بحْر لا يَدري ما في قَعْره، فهذا القول لم يَرِد إلا عِند المُتأخِّرين نقْلاً عن عبدالرَّحمن بن أبي الزِّناد؛ وهو ما أشار إليه الحافظ البَيهقيُّ بقوله[85]: وفيما ذكَر أبو عبدالله بن مَنْدَه حِكايةً عن ابن أبي الزِّناد أنَّ أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر مِن عائشة بعشْر سِنين. اهـ.

وهذه الرِّواية عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد أخرَجها الحافظان ابنُ عبدالبرِّ[86]، وابن عَساكر[87]؛ مِن طَريق الأصمَعيِّ، عنه، مِن قوله، وهي غير متَّصلة الإسناد، ويَدحَضُها أنَّ عبدالرحمن بن أبي الزِّناد نفْسَه قد جاءتْ روايتُه عن هِشام بن عُرْوة لنفْس الحَديث الذي طعَن فيه هذا المُشكِّك المُتطاول، وقد تقدَّم ذكْرُها، وقد رفَع عُلماء الحَديث مِن رِواية ابن أبي الزِّناد عن هِشام، واعتبروها مِن جيِّد رِواياته، حسب قول الإمام يحيى بن معين المُتقدِّم ذكْرُه.

وليس أقوى في بيان ضعْف هذا القَول المنسوب لابن أبي الزِّناد مِن كونه مُنقَطِع بيِّن الانقِطاع؛ فعبدالرحمن بن أبي الزِّناد بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - مَفازة تَنقَطِع دونها أعْناق الرَّواحل؛ فقد وُلد في سنة مائة مِن الهجرة، وتوفِّيَ في سنَة أربع وسبعين بعد المائة[88]!

وقد تقدَّم معَنا أنه مُقدَّم في هِشام بن عُرْوة، وهِشام هو الواسطة بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - وعليه فإنَّ ما نُسِب إليه مِن قولٍ - إنْ صحَّ عنه، وهو ليس بصَحيح - فيُحمَل على الوهم الذي لا يَكاد يَسلَم منه بَشرٌ.


المطلب الثاني: ذهاب الناقِد إلى انعِدام الدقَّة لدى جَميع المُتقدِّمين:
فكأنَّ المُتقدِّمين أوباش - في نظر "إسلام بحيري" - لا همَّ لهُمْ إلا جمْع النصوص، ولا شأن لهم بتَمييز سقيمِها مِن صَحيحِها، وقد زعَم فيما زعم أنه رجَع فيما رجَع إلى "سِيَرِ أعلام النُّبَلاء"، وهو بذلك أحد رجلين؛ فإما أن يكون جاهِلاً بما قرأ، فلم يَستوعِب الإشارة النَّقديَّة القويَّة الواضِحة في تَعليق الحافظ الذهبيِّ، أو أنه عَلِمها وتغاضى عنها لشيء في نفسِه؛ فإنَّ الحافِظ الذهبيَّ ذكَر أسماء - رضي الله عنها - في السِّيَر[89]، فقال: وهي وابنُها عبدالله، وأبوها أبو بكر، وجدُّها أبو قُحافة صحابيُّون، أضرَّت بأَخَرة[90]، قال ابن أبي الزِّناد: كانتْ أكبر مِن عائشة بعشْر سنين، قلتُ - والكلام للحافظ الذهبيِّ -: فعلى هذا يكون عُمرها إحدى وتِسعين سنةً، وأمَّا هِشام بن عُرْوة، فقال: عاشتْ مائةَ سنةٍ، ولم يَسقُطْ لها سنٌّ. اهـ.

وما ذهَب إليه الحافظ الذهبيُّ هو تأكيد لتدبُّر السلف للرِّوايات؛ إذ إنه وصَل إلى ذلك بطريقة حسابيَّة صَحيحة، فقد بنَى على سنِّ عائشة - رضي الله عنها - عند وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ثماني عشْرةَ سنَة، يُضاف إليها سبعٌ وأربعون سنَةً، هي ما عاشتْه بعد وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَكون عُمرها خمسًا وستِّين سنة، يُضاف إليها عشر سِنين فرْق العُمر بينها وبين أسماء - على زعْم صحَّة الرِّواية عن ابن أبي الزِّناد - ثمَّ يُضاف الفرْق بين تاريخ وفاة عائشة وتاريخ وفاة أسماء - رضي الله عنهما - وهو ستَّ عشرةَ سنَة، فيَكون عُمر أسماء إحدى وتِسعون سنة بحسب ما نُسب إلى ابن أبي الزِّناد، وليس مائة سنة في المشهور عن هِشام بن عُرْوة، وهذه هي الإشارة النقديَّة التي كان واجبًا على "إسلام بحيري" أن يتأمَّلها، بَيْدَ أنه مع ذلك يُصرُّ على أنَّ المصادِر التاريخيَّة قد أجمعتْ على أنَّ عُمر أسماء - رضي الله عنها - مائة سنة، وهو بذلك لا يُدرِك أنَّ القول بأنَّ الفرق بينها وبين عائشة عشر سنين فقط، يتَعارض مع القول بأنَّ عُمرها مائة سنَة، مع أنَّ القول بأنَّ فرْق ما بين الأختَين عشْر سِنين أمرٌ يَدحضُه الحساب، وهو قد بنَى نقْده على الحِساب المجرَّد!

وثمَّة أمْر آخَر يَنبغي لكلِّ مُدقِّق أنْ يَقف عِنده؛ فقد ترجَم أبو نُعيم الأصْبَهانيُّ الحافظ في "معرفة الصحابة"[91] أسماء - رضي الله عنها - فقال: أسماء بنت أبي بكر الصديق، أمُّ عبدالله بن الزُّبَير، كانت تُعرَف بذات النِّطاقَين، كانتْ تحت الزُّبَير بن العوَّام، فولدتْ له عبدالله، وعُروة، والمُنذِر، ثمَّ طلَّقها، فكانت عِند ابنِها عبدالله، كانتْ أختَ عائشة لأبيها، وكانت أسنَّ مِن عائشة، ولدتْ قبْل التأريخ بسبع وعِشرين سنَةً، وقبْل مَبعَثِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعَشْر سِنين، وولدتْ ولأبيها الصدِّيق يوم ولدتْ أحد[92] وعشْرُون سنةً، توفِّيَتْ أسماء سنَة ثلاث وسَبعين بمكَّة بعد قتْل ابنِها عبدِالله بن الزُّبَير بأيام، ولها مائة سنة وقد ذهَب بصَرُها، أمُّ أسماء وأمُّ عبدالله بن أبي بكْر: قُتَيلَة بنت عَبدالعُزَّى بن عبد أسْعد[93] بن نصْر بن مالك بن حَسَل، روى عن أسماء عبدُالله بن عباس، وابنُها عُروَة بن الزُّبَير، وعبَّاد بن عبدالله بن الزُّبَير، وأبو بكْر بن عبدالله بن الزُّبَير، وعامِر بن عبدالله بن الزُّبَير، ووهْب بن كَيْسان، والمُطَّلب بن عبدالله بن حَنطَبَ، وعبدالله بن أبي مُلَيكة، ومحمَّد بن المُنكَدِر، وطلْحَة بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكْر، وفاطِمة بنت المُنذِر بن الزُّبَير، وصفيَّة بنت شَيبة الحجَبِيُّ، في آخَرين. اهـ.

وما ذكَره أبو نُعيم يَكشِف عن خَطأ ما نُسِب إلى ابن أبي الزِّناد، فبخصْم إحدى وعِشرينَ سنةً مِن عُمرِ أبي بكْر - رضي الله عنه - وهو عُمْره عِند ولادَة بنتِه أسماء - يُصبِح الناتج إحْدى وأربعين سنة، هو عُمر أسماء عِند مَوت أبيها - رضي الله عنهما - فإذا أضيف له ما عاشتْه بعد وفاة أبيها، وهو تِسعٌ وخَمسون سنةً، عِند موتِها في سنة ثلاث وسبعين، فيكون هذا مُخالِفًا لمؤدَّى ما رُوِيَ عن ابن أبي الزِّناد، ومُوافِقًا لما هو مَشهور عن هِشام بن عُرْوة، وهو ما يتوافق بالتَّقريب مع قول أبي نُعَيم الآخَر؛ بأنها ولدتْ قبْل التأريخ - أي قبْل الهِجرة - بسبْع وعِشرين سنة، ولو أضيف ما عاشتْه قبل الهجرة مع ما عاشته بعدَها، كان ذلك هو قول هِشام بن عُرْوة نفسه، وعليه؛ فإنَّ القول بأنَّ بين أسماء وعائشة عشر سنوات قولٌ غير صَحيح، وقد وقَف عِنده الحافظ الذهبيُّ ناقدًا بصيرًا، ولم يُعوِّل عليه الحافظ أبو نُعيم الأصبَهانيُّ، وإنْ كان قول أبي نُعَيم بأنَّ أسماء ولِدَتْ قبل مبعَثِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعَشر سِنين، قول غير صَحيح أيضًا.

المطلب الثالث: مُناسَبة عُمرِ عائشة للزَّواج:
قد يَرفُض البعض هذه السنَّ للزَّواج؛ بحجَّة أنها دون سنِّ البلوغ، ولكنَّ الحافِظ البَيهَقِيَّ - رحمه الله - قد كَفانا التَّعَب في هذا الشأن، فبوَّب في "السُّنن الكُبرى" بابًا بعُنوان: (السنُّ التي وُجِدت المرأة حاضَتْ فيها)[94]، ثم رَوى بسنده إلى الإمام الشافعيِّ - رَحِمَه الله - أنه قال: رأيت بصنْعاء جدَّةً بنتَ إحدى وعِشرينَ سنَة، حاضَت ابنةَ تِسْعٍ، ووَلَدت ابنَة عشْر، وحاضَت البنتُ ابنَة تِسعٍ، وولَدت ابنة عشْر. اهـ.

وقال الحافِظ البَيهقيُّ عَقِب ذلك: ويُذكَر عن الحَسن بن صالح، أنه قال: أدركْتُ جارةً لنا صارتْ جدَّةً بنتَ إحدى وعِشرين سنَة، وعن مُغيرَة الضبَّيِّ أنه قال: احتلمْتُ وأنا ابن اثنتَي عشْرة سنَة، ورُوينا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: إذا بلغَتِ الجارِيَة تِسعَ سِنين، فهِيَ امْرأة؛ تَعني - والله أعلم - فحاضَتْ فهي امْرأة[95]. اهـ.

وقد جرَتْ عادة الأقْدَمين على التبْكير بتَزويج أولادِهم صغارًا؛ فقد أخرَج الإمام مالك في "الموطَّأ"[96] عن نافع؛ أنَّ ابنة عُبيدالله بن عُمر - وأمُّها بنتُ زَيد بن الخطَّاب - كانت تحتَ ابنٍ لِعَبدالله بن عُمر، فمات ولم يَدخُل بها، ولم يُسمِّ لها صَداقًا، فابتغَتْ أمُّها صَداقها، فقال عبدالله بن عُمر: ليس لها صَداق ولو كان لها صَداق لم نُمسِكْه ولم نَظلِمْها، فأبتْ أمُّها أنْ تقبَل ذلك، فجعلوا بينهم زَيد بن ثابت؛ فقضَى أنْ لا صَداق لها ولها المِيراث.

وأخرجه الطَّحاويُّ في "بيان مُشكل الآثار"[97]، بلفْظٍ صرَّح فيه بصِغَر ابن عَبدالله بن عُمر، مِن طريق سُليمان بن يَسار، أنَّ ابن عُمر زوَّج ابنًا له ابنَة أخيه عُبيدالله بن عُمر - وابنُه يومئذٍ صَغير - ولم يَفرِض لها صَداقًا، فمكَث الغُلام ما مكَث، ثمَّ مات، فخاصَم خالُ الجارِيَة ابنَ عُمرَ إلى زيد بن ثابت، فقال ابن عُمر لزَيد بن ثابتٍ: زوَّجتُ ابني وأنا أُحدِّث نفْسي أنْ أصنَع به خَيرًا، فمات قبْل ذلك، ولم يَفرِض للجارِيَة صَداقًا، فقال زيد: لها المِيراث إنْ كان لِلغُلام مال، وعليها العدَّة، ولا صَداق لها.

وأخرَج سَعيد بن منصور في سُنَنه[98]عن أبي مُعاوية، عن هِشام بن عُرْوة، عن أبيه، أنه قال: دخَل الزُّبَير بن العوَّام على قُدامة بن مَظعون يَعودُه، فبُشِّر زُبَير بجارية، وهو عنده، فقال له قُدامة: زوِّجْنيها، فقال الزُّبَير بن العوام: ما تَصنع بجارِيَة صَغيرة، وأنت على هذا الحال؟ قال: بلى، إنْ عِشتُ، فابنَة الزُّبَير، وإنْ متُّ، فأحبُّ مَن وَرِثني، قال: فزوَّجَها إيَّاه.

وأخرَج ابن أبي شَيبة[99] عن عَبدة بن سُليمان، عن هِشام، عن أبيه، أنَّ الزُّبَير زوَّج ابنةً له صغيرة حين نَفِسَتْ.

وأخرَج ابن أبي شيبة[100]، عن أبي معاوية، عن هِشام، عن أبيه، أنه زوَّج ابنًا له ابنةً لمُصعَب صَغيرةً.

وأمَّا زعْم "إسلام بحيري" بأنه ما اجتَهد في ذلك إلا لغيرَتِه على رسول الله - صلَّى عليه وسلَّم - فهو زعْمٌ غير صَحيح؛ إذْ إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان ليُرجِئ دُخوله بعائشة - رضي الله عنها - لولا أنَّها كانتْ صَغيرةً، فلما أدركَتْ وبلغَتْ سنَّ النِّساء وهي في التاسِعة، دخَل بها - صلوات ربي وسلامه عليه - وهذا يتأكَّد بما تقدَّمتْ نِسبتُه إلى عائشة - رضي الله عنها - مما رواه البَيهقيُّ، وعلَّقه التِّرمذيُّ، عنها - رضي الله عنها -: "إذا بلغَتِ الجارية تِسعَ سنين، فهِيَ امرأة؛ تعني - والله أعلم - فحاضَتْ فهي امرأة". اهـ.

وذكَر الحافِظ أبو عُمر بن عبدالبرِّ في التَّمهيد[101] ما قاله عبدالله بن محمَّد بن عَقيل، بأنَّ مَسألة اختِلاف السنِّ عِند عُقدة النِّكاح، فقال: هذا أكثَرُ ما قيل في سنِّ عائشةَ في حين نِكاحِها، ومَحمَل هذا القول عِندنا على البِناء بها، ورواية هِشام بن عُرْوة أصحُّ ما قيل في ذلك مِن جِهَة النقْل، والله أعلم.

المطْلَب الرَّابع: زعْمُه تَكذيب ابن حجَر للحَديث، وتَعويل الناقد على تَعارُضِه مع حَديث آخَر في "صَحيح البُخاريِّ":
فأمَّا زعْمُه بأنَّ الحافِظ ابن حجَر قد كذَّب الحَديث، فهو أمر مُضحِك جدًّا، ولا يُلتفَتُ إليه، فلو أنه نظَر في "فتح الباري"، أو عرف ما بذله الحافظ ابن حجر في تَغليق التَّعليق، لَما قال هذا القول، ولكنَّه أَجهَل مِن حِمار أهلِه.

وأمَّا تَعويله على الحَديث الآخَر الذي ورَد في "صَحيح البُخاريِّ"[102]، عن عائشة - رضي الله عنها - مِن طَريق عَقيل، عن ابن شِهاب، قال: أخبرني عُروة بن الزُّبَير، أنَّ عائشة زَوْج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: "لمْ أَعقِلْ أبَويَّ إلا وهُما يَدينان الدِّين، ولم يَمُرَّ علَينا يومٌ إلا يَأتينا فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - طرَفَي النَّهار بُكرةً وعشيَّةً، ثمَّ بَدا لأبي بكر فابْتَنى مَسجِدًا بفِناء دارِه، فكان يُصلِّي فيه، ويَقرأ القُرآن، فيَقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يَعجبُون منه، ويَنظُرون إليه، وكان أبو بكْر رجلاً بكَّاءً لا يَملِك عينَيه إذا قرأ القرآن، فأفزَع ذلك أشرافَ قُرَيش مِن المُشركين".

وقد أراد أن يَستشْهِد بأنَّ عائشة لما عَقَلتْ في ذلك العهد، فهذا يَعني أنها أسلمَتْ قبْل الجهْر بالدَّعوة، ولكنَّه لو تابع تَعدُّد الرِّوايات لهذا الحديث في "صَحيح البُخاري" وحده لوجَدها في نحو عشرة مَواضِع في الصَّحيح، وتُفيد بعض هذه الرِّوايات بأنَّ أبا بكْرٍ لما طلَب الإذن بالهِجرة إلى الحبَشة، أمره الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالتأنِّي، وقد فَهِمَ الإشارة، فبدأ يتهيَّأ للهِجرَة إلى المدينة وليس إلى الحبَشة، وهذا يعني أنَّ ذلك كان بعد مُضيِّ تِسع سَنوات على البعْثَة، وهو ما يَجعل عائشة تَعقِل كلَّ شيء في ذلك العهد، وقولها: "لم أَعقِلْ أبَويَّ إلا وهما يَدينان الدِّين" حجَّة عليه لو تأمَّل، وأنَّى له ذلك؟ فسُبحان الله!

المطلب الخامس: زَواج أبي بكْر الصدِّيق مِن أمِّ رومان - رضي الله عنهما -:
كانتْ أمُّ رومان والدة عائشة - رضي الله عنهما - تحت عبدالله بن الحارث بن سَخْبَرة الأسَدِيِّ، الذي قَدِم مكَّة فحالف أبا بكْر واستقرَّ بمكَّة قبْل البعْثَة، فأنجبَتْ له الطُّفَيل[103]، فهو أخو عائشة لأمِّها، فلمَّا مات عبدالله بن الحارث، خلَفه أبو بكر على أمِّ رومان، فأنجبَتْ له عبدالرَّحمن وعائشة، والناظِر المُدقِّق يَجد أنَّ زَواج أبي بكْر لأمِّ رومان - رضي الله عنهما - كان بعد مدَّة طَويلة مِن ولادة أسماء - رضي الله عنها - ذلك أنا نَجِد تَقارُبًا واضِحًا بين عائشة وبين أخيها لأمِّها، ونَجدُه مَذكورًا في صِغار الصَّحابة، وكذلك نَجِد عبدالله بن أبي بكْر شقيق أسماء وأخا عائشة لأبيها أيضًا مِن شَباب الصَّحابة[104]، وهو مؤشِّر إلى أنَّ العِشرَة الزَّوجية بين الصدِّيق وقَيْلَة أمِّ أسماء استمرَّتْ طويلاً، مما يدلُّ على أنَّ ما بين أسماء وعائشة ليس عشْر سنَوات فقط كما رُوي عن عبدالرحمن بن أبي الزِّناد - رحمه الله - وكلُّ ذلك يؤكِّد بأنَّ عائشة - رضي الله عنها - كان عُمرها عِند زواجها ستَّ أو سبع سنَوات، وتسع سنوات عِندَ البِناء بها، وذلك بشَهادة الجمِّ الغَفير مِن الصَّحابة، ومِن أهْل الحَديث والتاريخ.

الخاتمة:
اتَّضح - ممَّا تقدَّم - أن هذا النقْد لم يَقُمْ على ساقٍ، وهو مُخالِف لمنهَج نُقَّاد الحَديث والعارِفين بعِلَلِه، وبالتَّسليم له تَنهار قَواعِد التَّحديث التي أقامَها جَهابِذَة المُحدِّثين، فهِشام بن عُرْوة روى عنه العِراقيُّون بالاشتِراك مع غيرهم مِن أهْل الحِجاز، فلو قُلْنا بترك رواية العراقيِّين عنه دون تقييد، لكانتْ هذه قاعِدةً في التَّحديث نافِقةً في سوق الجهَلة، لا أساس لها في قواعِد المُحدِّثين، ولو قُلْنا بترْك ما انفرَد به العراقيُّون مُطلَقًًا، لما وجَدْنا ذلك أصلاً، فإنَّ إمامًا جليلاً مثْل هِشام بن عُرْوة، لا يُمكِن أن يَظهر حديثُه في بلد غير بلد نشأته ومَوطِن تَعلُّمه، ثمَّ لا يَرويه أحد مِن أهْل بَلدِه، ولو سلَّمْنا بوجود حديثٍ كهذا، لظهَر لنا أنه حَديث مَعلول بعلَّة يَعرِفها خُبراء العِلَل، أو أنه مَسروق أو موضوع، وبذا يتَّضح أنَّ "إسلام بحيري" لا عَلاقة له بهذا العلْم النَّفيس، وقد وضَح أنه لا يُجيد حتَّى الحِساب، وقد روَّج "جَمال البنا" لبِضاعة كاسِدَة لا يَعرِف دخيلتَها، فهُما إمَّا أن يَكونا جاهِلَين، أو صاحِبَي غرَض، والله المُستعان.

وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِكْ وأَنعِمْ على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه.

[1] صحفِيٌّ مِصريٌّ، وهو ابن الشَّيخ أحمد عبدالرَّحمن البنَّا الساعاتيِّ، وأخو الشَّهيد - بإذن ربِّه - حسَن البنَّا، فسُبحان الذي يُخرِج مِن البَيت الواحِد أخيارًا وأشرارًا!
[2] "ميزان الاعتدال" (6: 59).
[3] انظر ذلك في ترجمة هِشام بن عُروة في "تهذيب الكَمال في أسْماء الرجال" للحافِظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ؛ (30: 236)، وترجمة الإمام مالك بن أنس في الكتاب نفْسِه؛ (27: 104).
[4] مِن ترجَمتِه في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ؛ (30: 232)، ومن "ميزان الاعتدال في نقْد الرِّجال" للحافظ الذهبيِّ (7: 85).
[5] إمام حافِظ مُجوِّد، حدَّث عن الإمام البُخاريِّ وجماعة، وعنه أبو القاسم البَغَويُّ، وجماعة (ت318هـ)، انظر ترجمته في "سِيَر أعلام النبلاء" (14: 501).
[6] "تاريخ بغداد" (2: 341) طبعة العلامة الدُّكتور بشَّار عوَّاد مَعروف.
[7] "هدْي الساري مُقدِّمة فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاريِّ" للحافظ ابن حجر العَسْقلانيِّ.
[8] هو: عليُّ بن عُمر أحمد، مِن كبار أئمَّة الحَديث (ت385هـ) طبقات الشافعيَّة (1: 161).
[9] هو: أحمد بن عليِّ بن محمَّد بن حجَر الكنانيُّ (ت852هـ)، "الضَّوء اللامِع" للحافِظ السَّخاويِّ، (2: 36).
[10]"هدْي الساري مُقدِّمة فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاريِّ" للحافظ ابن حجر العَسْقلانيِّ (ص: 471) الريان.
[11] "تهذيب التهذيب" للحافِظ ابن حجَر العَسقلانيِّ (4: 275) مؤسَّسة الرسالة.
[12] أيْ أنه يَزيد في الأسانيد، وهذا جرْح غائر في هذا الحافِظ.
[13] أيْ أنه كتَب في الحطِّ مِن خَليفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصدِّيقِ، وفي أمير المؤمِنين الفاروق - رضي الله عنهما - وكان يَرفُض ولايتَهما وشأنَهما كلَّه، على اعتِبار أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - أحقُّ بالأمْر مِنهما.
[14] وهذا أيضًا مِن أمور التشيُّع والرفْض الظاهِرة، والشِّيعة يُضعِّفون هذا الحَديث كما هو مَعروف، والحَديث في "صحيح مسلم" في باب: حُكم الفَيء برقم: (1757)، وهو مِن جنْسِ الطَّعن المَعلوم، فمالِك بن أَوس بن الحَدَثان له رُؤية، والطَّعْن فيه مِن جنْسِ الطَّعْن في الصَّحابة - رضي الله عنهم - وقد ثبَت نحو هذا الحَديث في صَحيح البُخاريِّ مِن حَديث الزُّهريِّ عن عُروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ فاطمة - عليها السلام - والعباس أتَيا أبا بكْرٍ يَلتَمِسان مِيراثَهما؛ أرْضَه مِن فدَك، وسَهمَه مِن خَيبر، فقال أبو بكر: "سَمعتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا نُورَثُ ما تركْنا صدَقة، إنَّما يَأكُل آل محمَّد في هذا المال))، والله لَقَرابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحبُّ إليَّ أنْ أَصِل مِن قَرابتي".
[15] هذا تَعقيبٌ نفيسٌ مِن الحافظ الذهبيِّ على كلام عَبدان، وهو بُرهان واضِح على الاعتِدال في نقْد الإمام الذهبيِّ للرِّجال.
[16] البُندار بضمِّ المُوحَّدة: لفظ دخيل على العربية، وهو: التاجِر يَحتكِر البَضائع ويتربَّص بها غَلاء السِّعر؛ كذا في "المعجم الوسيط" (1: 71).
[17] الكَلام هُنا للحافظ الذهبيِّ - رحمه الله.
[18] قال الشيخ عبدالفتاح أبو غُدَّة في هامش "لسان الميزان": (جزين ومَشْغَرة) قَريَتان مِن قُرى دِمَشْق كان أهلُها مَشهورين بالرَّفْض، والحَواتِر جمع حَوتَريٍّ، وهو لفْظ عامِّيٍّ دارِج في بلادِنا بلاد الشَّام، بلَدِ الحافِظ الذهَبيِّ، ومعْناه: الجاهِل الأزْعَر الطائش. اهـ. قلتُ: الكَلِمة لها نفْس المَدلول عِندنا في السُّودان، والقَول بأنها مِن العاميَّة قول غير صَحيح، ومعناها عِندَنا أيضًا الرَّجُل الذي لا خَير فيه، وهو الذي لا يُعطِي خَيرًا، وانظر: "لسان العرب" لابن منظور؛ (حتر 4: 163).
[19] انتهى كلام الحافظ الذهبي، وهو في "ميزان الاعتدال" (4: 329)، واعتمَد في نقْله على كتاب "الكَمال في ضُعَفاء الرِّجال" لأبي عبدالله بن عديٍّ (4: 321).
[20] "لسان الميزان" للحافِظ ابن حجَر العسْقلانيِّ (5: 149- نسخة العلامة الشيخ عبدالفتَّاح أبو غُدَّة).
[21] "صحيح البُخاريِّ"، في باب: تزويج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وقُدومه المدينة وبنائه بها، برقم: (3894)، وكرَّره سنَدًا ومتْنًا، في باب: البناء بالنهار بغير مَركبٍ، ولا نِيران برقم: (5160)، وكرَّره في باب: الدُّعاء للنِّساء اللاتي يُهدينَ العَروس، برقم: (5156).
[22] في نفْس الباب، برقم: (3896).
[23] في باب: تزويج الأب ابنتَه مِن الإمام، برقم: (5134) وهو مُجتَزأ مِن رقم (3894) في باب: تزويج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة وقُدومه المَدينة وبنائه بها.
[24] وروايته أخرَجها البُخاريُّ في الصَّحيح في باب: إنْكاح الرَّجُل ولده الصِّغار؛ لقَولِه تعالى: ﴿ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [الطلاق: 4]، فجعل عِدَّتها ثلاثة أَشهُر قبْل البُلوغ، برقم: (5133).
[25] وروايته أخرجها البُخاريُّ في باب: مَن بنَى بامْرأة وهي بنتُ تِسعِ سِنين، برقم: (5158).
[26] "صحيح مسلم" في باب: تزويج الأب البكْرَ الصَّغيرةَ، برقم: (1422).
[27] أخرَجه ابن حبَّان في "الصحيح" برقم: (7097)، وأبو نُعَيم في "المُستَخرج" (4: 86 برقم: 3310).
[28] هو: محمَّد بن خازِم، بالخاء المُعجَمة، وروايته في "صحيح مسلم" المَوضِع نفسه.
[29] "صحيح مسلم" الموضِع نفسه.
[30] ابن سعْد في "الطبقات الكبرى" (8: 61)، وأبو داود في "السنن"، باب: في تزويج الصِّغار برقم: (2121)، وأبو عوانة في "المسند المُستخرَج على الصَّحيح" برقم: (4265)، وأبو نُعَيم في المُستخرَج على "صحيح مسلم" برقم: (3311).
[31] "مسند الطيالسيِّ" برقم: (1454)، وبرقم: (1557)، و"مسند الإمام أحمد" (6: 280)، و"طبَقات ابن سعْد الكُبرى" (8: 59)، وأبو داود في "السنن"، باب: في الأُرْجوحَة برقم: (4935)، وابن عبدالبرِّ في "التمهيد لما في الموطَّأ مِن المعاني والأسانيد" (19: 108).
[32] ابن أبي داود في "مسند عائشة" برقم: (34)، وابن عبدالبر في "التمهيد"، الموضع نفسِه مَقرونةً مع رِواية حمَّاد بن سلمة.
[33] "الطبقات الكبرى" (8: 60)، و"مسند إسحاق بن راهوَيهِ" برقم: (721)، و"الزُّهْد" لِهَنَّادِ بن السَّرِيِّ برقم: (738).
[34] "المسند المُستخرَج على الصَّحيح" برقم: (4264).
[35] "الطبَقات الكُبرى" (8: 61).
[36] "المسند المستخرج على الصحيح" برقم: (4267).
[37] "سنن البَيهقيِّ الكُبرى" (7: 114).
[38] في "السنن" برقم: (515).
[39] في" معرفة الصحابة" برقم: (6744).
[40] الجرح والتعديل لأبي محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي (9: 195).
[41] مسند الإمام الشافعي، برقم: (829)، وبرقم: (1319)، جمَعه أبو العبَّاس الأصمُّ، عن الرَّبيع بن سليمان المراديِّ.
[42] أخرجه الإمام الشافعي في "اختلاف الحديث" (ص: 516).
[43] أخرجه الحُمَيديُّ في "المسند" (1: 113 برقم: 231).
[44] أخرجه الآجري في "الشريعة" (5: 88 برقم: 1822).
[45] أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23: 24).
[46] أسنده الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10: 238)، ونقله المِزِّيُّ في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (17: 98)، والذهبيُّ في "تذكرة الحفاظ" (1: 182).
[47] "مسند الإمام أحمد" (6: 118).
[48] سليمان بن داود عندي هو: ابن داود بن داود الهاشِمي، وليس كما عرَّفتْ به مجموعة الشيخ شُعيب على أنه الطَّيالسيُّ، وانظر: "مسند الإمام أحمد" طبعة مؤسَّسة الرِّسالة (41: 360) برقم: (24867)، وقد جزَمْتُ بذلك بعد تتبُّع أحاديث ابن أبي الزِّناد في مسند الإمام أحمد.
[49] "المعجم الكبير" (23: 21).
[50] "المُعجَم الأوسَط" (7: 94 برقم: 6957).
[51] "الكِفاية في علم الرِّواية" للخَطيب البغداديِّ (ص: 58).
[52] انظر: ترجمته في "تقريب التقريب" للحافِظ ابن حجر العسقلاني برقم: (5513).
[53] انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافِظ المِزِّيِّ (27: 53)، ترجمة محمد بن يوسف الفِرْيابي.
[54] انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ المِزِّيِّ (27: 56).
[55] "صحيح مسلم" الموضِع السابِق نفْسه.
[56] "صحيح مسلم" الموضِع السابق نفسه.
[57] هذا مِن الالتِفات في الكَلام، كما يقول أهل العربيَّة.
[58] "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصِم النَّبيل (5: 184) برقم: 3007.
[59] "المعجم الكبير" (23: 22).
[60] السنن الكبرى للنسائي (3: 259) برقم: 5365.
[61] "المعجم الكبير" (23: 23).
[62] "المعجم الأوسط" (8: 108) برقم: 8116.
[63] "السنن الكُبرى" للنَّسائيِّ (3: 333) برقْم: 5571.
[64] "المعجم الكبير" (23: 29).
[65] "مُسند أبي يَعلى المَوصِليِّ" (8: 132) برقم: 4673.
[66] "المُستدَرك على الصَّحيحَين" (4: 11).
[67] "الطبقات الكُبرى" (8: 60).
[68] "المعجم الكبير" (23: 23).
[69] وهذا الوجْه قد اختَلف الرُّواة فيه، كما بيَّن ذلك الحافظ الدَّارقُطنيُّ في "العِلَل" (5: 305).
[70] "السنن الكُبرى" للنسائيِّ (3: 333) برقم: 5370.
[71] انظر: "تاريخ بغداد" للخَطيب البَغداديِّ (13: 102) ترجمة الإمام مسلم، و"تهذيب الكمال" للحافِظ أبي الحجَّاج المِزِّيّ (24: 453)، و"تهذيب الكمال" أيضًا (21: 19).
[72] "فتْح الباري بشرْح صَحيح البُخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (7: 224- الريان).
[73] تهذيب سنن أبي داود؛ لابن قيم الجوزية (1: 299).
[74] صحيح البخاري، باب: الانبساط إلى الناس، وقال ابن مسعود: خالط الناس، ودينك لا تَكْلِمنه، والدعابة مع الأهل، برقم: (6130).
[75] صحيح مسلم، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، برقم: (2440).
[76] أخرجه عبدالله في وجادات المسند في المسند نفسه (6: 281).
[77] أخرجه ابن أبي الدنيا في العيال برقم: (555)، وبرقم: (559).
[78] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9: 176 برقم: 9462).
[79] أخرجه ابن أبي الدنيا في العيال برقم: (556).
[80] أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8: 62).
[81] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8: 174).
[82] أخرجه ابن حبان في صحيحه (13: 174 برقم: 5864).
[83] أخرجه الحميدي في المسند برقم: (232)، وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5: 203 برقم: 3029)، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23: 120)، و أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضًا (23: 26) من طريق الحميدي.
[84] انظر لسان العرب (7: 306 - رهط).
[85] السنن الكبرى للبيهقي (6: 204).
[86] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2: 185).
[87] تاريخ دمشق (69: 10).
[88] انظر "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ أبي الحجَّاج المِزِّيِّ (17: 101).
[89] "سِيَر أعلام النبلاء" (3 :  380)، وانظر لذلك "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي أيضًا (5: 354).
[90] يَعني أنها عَمِيَتْ في آخِر حياتها - رضي الله عنها.
[91] "معرفة الصحابة" لأبي نُعَيم الحافظ (6: 3253 برقم: 3769).
[92] كذا في المطبوع من "معرفة الصحابة"، وعسى أن يكون في أصل أبي نُعيم الحافظ: (إحدى)، وإلا فصوابه (إحدى).
[93] كذا في المطبوع من "معرفة الصحابة"، وهو كذلك في "تهذيب الكمال" في ترجمة أسماء - رضي الله عنها - وفي "طبقات خليفة بن خياطٍ": (عبدالعزى بن عَبد بن أسْعَد)، وفي طبقات ابن سعد: (عبدالعزَّى بن أسْعد)، وتميل نفسْي إلى أنَّ الصَّواب ما في طبقات ابن سعد، والله أعلم.
[94] "السنن الكُبرى" للحافظ البَيهقيِّ (1: 319).
[95] أخرجه الترمذيُّ مُعلَّقًا في باب: ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج، عقب الحديث رقم (1109).
[96] أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2: 527) رواية يحيى.
[97] أخرجه الطَّحاويُّ في "شرْح مُشكل الآثار" ().
[98] أخرجه سعيد بن منصور الخراساني المكيُّ في باب تَزويج الجارِية الصغيرة برقم: (639).
[99] أخرجه ابن أبي شَيبة في "المُصنَّف"، في كتاب النكاح باب ما قالوا في الرجل يُزوِّج الصبيَّة أو يتزوَّجها (4: 345) برقم: 17627.
[100] أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، برقم: (17628).
[101] "التَّمهيد لما في الموطَّأ مِن المعاني والأسانيد" (19: 108).
[102] "صحيح البخاري"، باب: جِوار أبي بكر في عهْد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعَقدُه، برقم: (2175).
[103] "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر العسقلاني (8: 206).
[104] "الإصابة" (4: 27)، وذكر أنه كان غلامًا شابًّا عند الهِجرَة.